“سطور لا تكذب”.. الإرتفاع بالعادي إلى مستوى جمالي إنساني
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
بيروت ـ رويترز :
عند قراءة “سطور لا تكذب” وهي مجموعة الكاتب اللبناني حبيب ياغي القصصية يغلب ان يجد القارىء نفسه يتساءل عن القصة وشروطها وأركانها وما تقوم عليه من أسس.
ويتساءل القارىء أيضا هل تماثل براعته السردية الواضحة مهما كان الموضوع الذي يتناوله قدرته على الاتيان “بقصة” فعلية اي بعمل روائي؟ ويبدو ان الجواب يميل الى ان يكون ايجابيا.
ولعل أكثر ما نعهده من النتاج القصصي هو ذلك الذي يقوم على عمليات انتقائية للموضوعات التي تعتبر كبرى وانسانية وللشخصيات التي تعتبر بارزة لافتة للاهتمام في مجال ما او اكثر من مجال.
أما المسائل الاخرى من نسج الشخصيات والغور فيها على أساس علم النفس ووصف الظروف المادية والاجتماعية بتعمق وتحليل وبالاستناد الى دراسات ونظريات نفسية واجتماعية واقتصادية مختلفة فان الكاتب لا يعتمد عليها اعتمادا كبيرا وان كان لا يغفلها بل يورد الامور ببساطة وما يبدو عفوية مدروسة وكل ذلك يصل في نهاية الامر الى ما يشبه نتائج تلك الدراسات والتحليلات.
كان نقاد عرب قدامى في مجال الادب عامة والشعر خاصة يسمون ذلك التبسيط المدروس بدقة “الجهد لاخفاء الجهد” اي ان يأتي النتاج كأنه حصيلة فيض عفوي وهو ليس بالفعل كذلك بل هو حصيلة تراكم وتخمر.
ومع مجموعة ياغي هذه لا بد من التساؤل عن كل ذلك لان الكاتب يصور الحياة اليومية ببساطتها وسيرها العادي ويلتقط الاشخاص من هذه الحياة العادية فيأتون عادة عاديين بعيدين عن تلك السمات البارزة التي غالبا ما تميز ابطال القصص سواء في سعادتهم وحياتهم الهنيئة وفي تعاستهم وبؤسهم.
ياغي يتكلم عن الحياة كما نراها في الطريق او من نافذة منزل او من زجاج سيارة. انه ينقل لنا سيرها العادي وبطريقة تبدو في البداية عادية لا تركز على الامور البارزة ليجعلنا نكتشف لاحقا ان الحياة العادية واحداثها هي الامور المهمة فعلا في الحياة.
في المقدمة كتبت الدكتورة نور سلمان عن هذه المجموعة القصصية فقالت انها ثمرة قلم “عصامي شجاع شق طريق السلاسة الآسرة من السهل الممتنع.”
وقال الكاتب والناقد سليمان بختي في كلمة حملها الغلاف “حبيب ياغي في قصصه (سطور لا تكذب) يروي الحياة التي تستحق ان يعيشها المرء بحلوها ومرها يحتفي بابطالها العاديين باحلامهم البسيطة ويرتقي بهم الى مرتبة الفن الجميل والنبيل.”
شملت المجموعة خمس قصص وردت في كتاب من 111 صفحة متوسطة القطع صدر عن “دار نلسن للنشر” في السويد وبيروت.
وياغي كاتب وصحافي واعلامي اذاعي لبناني. من ابرز نماذج قصص المجموعة قصة “وهنا أيضا” و”شمعون وحنين” عن شاب وفتاة جمعهما الحب قبل ان يفترقا. يبدأ الكاتب القصة فيحملنا الى اجواء مختلفة عما كنا ننتظره من العنوان اذ لا حديث مباشرا عن بطلي القصة. انه ينقلنا الى الشوارع والبيوت والمتاجر. تبدو معه حركة الحياة وقد نقلها الينا بهدؤ وحيوية.
انه يتحدث عن اماكن حقيقية وعن اشخاص يبدون حقيقيين ايضا وان اضطر احيانا الى اعطائهم اسماء غير اسمائهم الاصلية. انه يجعلنا نشعر اننا امام “حكواتي” ماهر واحيانا امام تقرير صحفي يتميز كاتبه بحس أدبي “التقاطي” بارز.
انه يكتب ما يسميه البعض من قبيل التحبب لا الانتقاد ذلك النوع من “الثرثرات الحميمة الدافئة”. وبينما هو يرسم لك الشوارع والبيوت وغيرها في مدينة جونية شمالي بيروت تكاد تنسى ان للقصة موضوعا يختصره عنوانه وهو عن شاب وفتاة.
يبدأ بالقول مباشرة “مقابل نادي الضباط في “جونية” ركنت سيارتي وانطلقت سيرا على الاقدام الى “ابو الياس” بائع البياضات القريب… بغية شراء لباس نوم شتوي لي. وان وجدت جوارب صوف كتلك التي تثير رغبة افراد السلك الجندي لن اضن بالمال لا بتاع خمسة ازواج على اقل تقدير.
“وصلت الى الساحة التي يحيط بها مطعم الوجبات السريعة ومكتبة ومحل للازياء النسائية ومنها شققت طريقي باتجاه السوق. شارع عتيق خيمت عليه سكينة بعد ظهر يوم الاربعاء في كانون الثاني كانت حركة السير خجولة فمشيت في تؤدة وانا امر بمحلات الحلويات …ارتحت لغياب الضوضاء كذلك فعلت البيوت القديمة التي أغمضت عينيها بعد ظهر ذلك اليوم فبدت “كالاميرة النائمة” لا شيء يتحرك فيها الا ظلال الاسلاك الكهربائية الممدودة هنا وهناك كأنها أظافر ساحرات تطوف حولها.”
بعد ذلك ننتقل الى قصة شمعون وحنين. انها قصة من عالم تكثر الاشارة اليه عند الكاتب وهو عالم الانترنت والموبايل وغيرهما من مبتكرات العصر. تعرف احدهما الى الاخر عبر محادثات الدردشة (التشاتس) على الانترنت. ونشأت قصة حب رائعة بينهما انتهت الى زواج بدا انه سيكون حافلا بالسعادة.
تحملنا القصة الى أغنية المطربة اللبنانية فيروز “حبّوا بعضن.. تركوا بعضن” التي تقول فيها “بأول الشتي حبوا بعضن وبآخر الشتي تركوا بعضن …حبوا بعضن تركوا بعضن.”
يرسم ياغي الامور ببساطة وبمحبة اذ ليس هناك من حقد بعد ان ترك الزوجان احدهما الاخر بعد قصة حب رائعة. قد يقول القارىء ان المؤلف لم يوضح له سبب الانفصال ولا برره له وهذا نقص والامر صحيح. الا ان الجواب الذي يبدو جليا هو لا أحد لا المؤلف ولا صديقته حنين التي كانت تروي له القصة يعرف السبب. كل ما في الامر انها رددت ان شمعون قال ان زواجهما كان خطأ وانه لن ينجح. ترى هل اراد ان يقول ان كثيرا من العلاقات هذه الايام مبهمة الحدود حدود البداية وحدود النهاية؟
البارز في الامر انه يتركنا في هذا الجو من “اللاادرية.” في قصة “بيت بيوت” التقاط لحالات نفسية رائعة ولاحداث رهيبة مرت خلال الحرب الاهلية اللبنانية والقصف والحياة في الملاجىء والطبقات الامنة من المباني.
في “تاغ مدرستي” تذكر لايام وسنوات مضت وللمدرسة التي اقفلت ابوابها ولم تعد موجودة الا في الذاكرة.
في قصة “لك يوم يا دكتور” يحول ياغي قصة حصلت معه عندما كان طالبا في الجامعة الى مسألة مثيرة للاهتمام والفضول. استاذه الذي ظلمه أيام الجامعة تحمله اليه الاقدار خلال عمله الاذاعي ويحتاجه في خدمة ويكون التذكير بالماضي صعبا ومؤثرا.
صحيح ان الكاتب لا يأتي بقمم قصصية روائية في أعماله هذه لكنه يقدم مادة تتناول العادي لينسج منها تجربة أرفع من العادي وأكثر اثارة للاهتمام.