كوثر الباسلة.. نعم «الكواثر»….!

تنتفض الأقدار، فجأة، بإرادة الله، وتوزع عطاياها..

وقدر الله تعالى فيض من خير لا يكتب إلا خيراً، حتى وإن كان القدر، ألماً وسهدا، وقطعة من ليال سود وأحزان عناء.

زميلتنا المبدعة الرائعة كسيرة القلب، فارعة الفخر، الشاهقة، كوثر الأربش، كانت على موعد مع قدر قاس وعنيف وذي وجهين، أحدهما أنوار الضياء والمجد وفخر بمساحة الوطن وشموسه وعناق جباله، تزين ابنها الشهيد محمد العيسى ورفاقه، وارتدته هي زهواً حزيناً مراً حلواً.

والوجه الآخر حلكة من ليل مثل كل أشباح الظلمات الماحقة الساحقة، ارتداه المفجر المسكين التائه الذي دفع عمره، وحياته وحسرة أمه، فقط ليتقزم ويختم حياته بأن يكون آلة تفجير فحسب، مجرد أداة تخطف أرواح الناس لحساب الإبليسيات الخبيثة الرعناء الثملة بدماء الناس.

وعلى الرغم من كل هذا القدر العنيف المتفجر، بقيت كوثر كوثراً.. بل «كواثر» إذ امتزجت كلمات بيانها الحزين عالي السمو، في مهجة كل سعودية وكل سعودي، فاستحالت قنديلاً للوطن ولؤلؤا للوديان والبيد وعلما للشواهق، ومنارة في السواحل.

خَلِيلَيَّ، هُبَّا فانْصُراها على الدُّجَى

كتائبَ، حتى يَهْزِمَ الليلَ هازِمُ
وحتى تَرَى الجَوْزاءَ نَنثُر عِقْدَها،

وتَسْقُطَ من كَفِّ الثُّريَّا الخَواتمُ
(ابن هانئ)

وكان عزاؤها الشجاع، لأم المفجر، روعة الوفاء الصادق لضحية أخرى مكلومة ملوعة تكتم صرختها في أمشاج جريحة وحنايا ضلوع يتعبها الوهن وهول المصاب والألسن الحادة والعيون الجواظ.

هذه الكوثر، موعودة بالألم، والركض في الحقول المتفجرة، منذ أن اختارت أن تكون مستقلة، وأن تكون حرة متنأفة و«كوثراً» كواثر.

واستعصت أن تكون في قطيع الإماء، وألا تنحني للسوافل، ولا تخوض في مياه التاريخ الآسنة، التي تزيدها ألسنة الكره ونكائو الجراح، مزيداً من الخثر والنتن.

اختارت كوثر ألا تكون أداة أخرى للمفجرين في الطرف الآخر، والا تهرع إلى السكاكين الجاهزة لتغرسها في اللحوم المحرمة، وتطعن الكرام الوضائين، منارات الهدى، البنائين في قبورهم.

وأحجمت أن تلوث عفة ام الكرام، الصديقة بنت الصديق عائشة، زوجة المصطفى إمام الصديقين وضياء الدنيا.

اختارت كوثر أن تكون على خطى إمامها وإمامنا، الهادي بطل التاريخ، المثل، علي بن أبي طالب، المكرم في الدنيا، والمحظوظ بوعد من الله تعالى بالتتويج في الآخرة في جنان الخلد، وهو الكريم الذي حينما كانت له الكلمة العليا وانعقدت له ولاية الأمر كله، أمراً ونهياً، أكرم أم الكرام، وأكرم الكرام، وتعبد لله بحبهم، ورضي بهم أئمة أبراراً، مثلما قربوه واولوه الأمانة وزيراً ومستشاراً ووالياً وقاضياً ورشحوه واختاروه خليفة وإماما.

لهذا كانت كوثر، وهي تتأسى بشجاعة إمامها العبقري الفذ، تتلقى السهام وتذبها، وتتلقى التهديدات والشتائم والتعريضات، فلم يزدها إلا أن تكون كوثراً، مهدية محمدية عمرية علوية، على المحجة البيضاء الطاهرة لا سبابة ولا شتامة، ولا حتى نواحة.

ولهذا كانت جبلاً شامخاً صمدت لحظة إذ هبت الرياح الهوج، وخاضت معركة وجدانية مع الظلام، فتبدت قمراً هزم العتمة، واستمرت وضاءة كما يليق بأقمار العلا وتحلق كما عقبان شواهق.

رحم الله محمد العيسى نجل الباسلة وعبدالجليل ومحمد وهادي، الذين اقتحموا الموت بجوار مسجد العنود وأهدوا لنا الحياة، ورحم الله شهداء كل تفجير إرهابي في أي مكان من بلادنا الحبيبة وفي أي من رحاب أرض الله، وضحايا أي عدوان آثم لا يراعي عصمة دم، ولا رحمة إنسان. ورحم الله المفجر، وكل المفجرين، من كل ملة أو دين، فإنهم، وإن أقدموا على أعمال طغيان آثم، فإنهم إما ضالون أو مضللون، وهم يمثلون الآن أمام حكم عادل لا بعده عدالة ولا قسط، إذ سيحاسبهم الله تعالى عن كل قطرة دم أو فجيعة أم أو ترويع آمنين.

وبقى أن نقول إن الفكر الطائفي العدواني هو الذي ينتج صناعة الموت الحالية في بلاد العرب كما انتجها قروناً طوالاً في العراق وخراسان وإيران وفي مساحات أخرى، وهو الذي انتج قروناً من أنهار الدم في الحروب الصليبية، حيث يشعل جذوته الكره من المغالين، الذين اتبعوا هوى أنفسهم وهوى أمرائهم، واشاحوا عن هدي الله وأنواره، وضياء الفكر المبدع البناء.

تجدر الإشارة إلى أن المعركة الآن ليست بين الشيعة والسنة، بل بين الصفوية العدوانية المتسترة بالمذهب الشيعي، والداعشية الغلوائية، المتسترة بالمذهب السني، لا هذه الصفوية شيعية حقاً، ولا هذه الداعشية سنية حقاً. ومثلما غلاة السنة شواذ، فغلاة الشيعة شواذ عن الأغلبية الوسطية التي تحمل قلب الإنسان الطبيعي وفطرته على هدي الرحمن وسيرة الصحابة الأبرار.

وأيضاً فإن الفرس أمة عظيمة لا ينكر لها حق ولا ينقص من قدرها إلا جاحد حقود عدو للحقيقة، حتى وإن واجهنا الصفوية الطائفية العمياء للنظام الحاكم في إيران وقوميته الانتقامية العدوانية. وهو نظام يوظف ثروات الإيرانيين في حروب كره عدمية، ويترك عشرات الملايين من الإيرانيين عرايا بؤساء فقراء في قراهم ونجوعهم وجبالهم، فيما النظام طوال 35 عاماً يمول ميلشيات عدوانية في أقاصي الأرض، لا هم لها إلا بذر الفوضى والفتن وإراقة الدماء.

 وتر

إذ ما العربية تختار: «عبي عذاب الدهر

واعتصمي بالصمت الذليل..

وألا، طول عمرك، تضحكي»..

أنت العنود

إذ نفسك الزكية ارتقت

وهذا الضياء المجيد الساطع

في الحلكة الظلماء

سهمك

أنت أم الشهيد، الصاعد،

تتعطرين بشذى عطره،

فلست للأسفلين خليلة

ولا تلك الدونية لك

مطلق العنزي

نقلا عن “اليوم”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *