مالك بن نبي القحطاني
كثيرون هم الذين كتبوا وتحدثوا عن تجديد الفكر الإسلامي وتطوير الخطاب الإسلامي وإصلاح العالم الإسلامي. وإن تم ربط هذه المبادرات النهضوية غالباً بأسماء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، ما يؤدي إلى إغفال أسماء سبقت هؤلاء الثلاثة وأسماء جاءت بعدهم وأسهمت مثلما أسهموا وربما أكثر، لكن الوضع الجيوسياسي للعالم الإسلامي حينذاك هو الذي فرض رسوخ هذه الأسماء الثلاثة واستئثارها بنبرة التجديد والإصلاح والنهضة عمّن أسهم بعدهم في هذا الحقل الحيوي بنصيب وافر من الأطروحات المغروزة بعمق في خطاب التجديد، من أمثال: الطاهر بن عاشور وعلاّل الفاسي ومالك بن نبي، والأخير هو الاسم الأشهر بينهم في المشرق العربي، والذي اشتهرت عنه نظرية «القابلية للاستعمار» كإحدى أبرز وأصدق أدوات تفسير حال العالم العربي والإسلامي مع الاستعمار.
لا أحد يمكنه الزعم بأن تجديد الخطاب الإسلامي بفعل أولئك المجددين قد أُنجز أو أن الإصلاح قد تم، أو أن النهضة على وشك البزوغ بين عشية وضحاها. لكن من الإنصاف أيضاً لتلك الجهود عدم الظن بأنها قد ذهبت سدى قياساً على الواقع «الأسوأ» الذي يعيشه العالم الإسلامي الآن، إذا استثنينا التجربة النهضوية الماليزية. فأطروحات مالك بن نبي خصوصاً ما زالت تفعل فعلها في الخطاب التجديدي الذي ما برح يقاوم الإحباط، فيظهر بين حين وآخر على أيدي بعض الكتّاب والباحثين المسكونين بهاجس المراجعات التاريخانية والتجديد العصراني من أمثال: رضوان السيد ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط وحسن حنفي وطه عبدالرحمن، وغيرهم كثر في مشرق العرب وأكثر في مغربهم، لكني سأسمح لنفسي بأن أضيف اسماً سعودياً لهؤلاء قدّم، وهو ما زال في الأربعينات من عمره الحيوي، العديد من الأطروحات البديعة والعميقة في سبيل تجديد الفكر الإسلامي، وهو أستاذ أصول الفقه، وفي المسعى نحو إصلاح وتمدين العالم الإسلامي، وهو الأستاذ الزائر بالمعهد الأوروبي بفرنسا. ذلكم هو الدكتور مسفر بن علي القحطاني الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بمدينة الظهران السعودية الذي يطالع قراء هذه الصحيفة الدولية في كل يوم سبت بمقالة تأصيلية مطولة تتناول جانباً من هموم التجديد والإصلاح والنهضة التي طال انتظارها.
يتكئ مسفر القحطاني على مخزون بحثي متوالٍ في هذا الحقل، يتجاوز المقال الصحافي التأصيلي إلى رزمة كتب أصدرها الباحث الجاد في السياق ذاته، من أبرزها: (سؤال التدبير… رؤى مقاصدية في الإصلاح المدني)، (الوعي الحضاري… مقاربة مقاصدية لفقه العمران الإسلامي)، (إصلاح المال… دراسة في فقه المعاملات المالية المعاصرة) وكتب أخرى تتناول فقه الحكم الرشيد والعيش الرغيد، وفق مقاصد الشريعة الإسلامية الواسعة باتساع الأفق، لا كالتي يضيّقها أفق محدودي فهم مقاصد الإسلام… دين البشرية جمعاء.
وقد حظيت المقالة الأخيرة للدكتور مسفر القحطاني في هذه الصحيفة ( http://alhayat.com/Articles/8017791/الخطاب-الإسلامي-المعاصر—–التجديد-أو-الطوفان ) بقبول نخبوي وافر وتداول جماهيري واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، الافتراضية والحقيقية، ليس لأنها الأولى من نوعها من لدن الكاتب نفسه أو الأميز من بين كتاباته، ولكن لأنها قدمت في عشر كبسولات وصفة تبسيطية فعالة، لو استخدمت في علاج إشكاليات خطابنا، المتناقض والمحفز في بعض ملامحه ومساربه على التنازع والتباغض بين فصائل أفراد المجتمع الواحد، لكانت خطوة نوعية في سبيل التعافي.
لا يخفى أن كثيراً من الكتّاب قد سعى جهده أن يضع اسمه في مصاف النهضويين، لكن منعهم من ذلك قصور في أدواتهم المنهجية. إذ لا يُنتدب للإصلاح النهضوي من يخلط بين ذم الدولة على الإطلاق وبين ذم الظلم أيّاً كان مصدره، ومن يخلط بين ذم الشعب على العموم وتجهيله وازدرائه وبين ذم التخلف مع التأمل في مصدره، ومن يخلط بين تبيان العيوب والأخطاء وحصرها من أجل اجتنابها في سبيل النهوض وبين من يتمتع بمداومة تبيان العيوب وتعميمها والتيئيس من إصلاحها في سبيل إبراز نهضويته المتفردة!
لا شك أن نشأة الباحث «المجدّد» مسفر القحطاني في البيئة التعددية والانضباطية للحي «الأرامكوي» بمدينة الظهران (نسبةً إلى شركة «أرامكو» النفطية) قد أسهم في اكتسابه خصائص الباحث المميز كالمنهجية المؤصلة واتساع الأفق والاتساق الفكري والجَلَد على التتابع في مطاردة هدف محدد. وقد أوشك القحطاني من خلال أطروحاته الإسلامية التمدينية أن يصبح نسخة سعودية متجددة، ولا أقول مصغرة، من الباحث الإصلاحي الشهير مالك بن نبي. وإذا كان الأخير قد انشغل كثيراً، بسبب الظروف المتزامنة معه، بفكرة القابلية للاستعمار، فإن مالك بن نبي (السعودي) منشغل حالياً بفكرة القابلية للاستصلاح.
زياد الدريس
نقلا عن “الحياة”