ناصر المنقور وما يكتبه محمد السيف
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
التحفة الجديدة لمحمد السيف «ناصر المنقور… أشواك السياسة وغربة السفارة» ليست مجرد سيرة لشخصية كانت من علامات التنمية والتحديث، بل هو تاريخ شامل للسعودية في تحولاتها وتبدلاتها السياسية والإدارية، وتوثيق دقيق لتاريخها يجمع شتات وثائقها، ثم يعيد تركيبها وصياغتها في سياق متماسك حركياً ومحصن بلغة تتكئ على الشعر من دون أن تخلّ بصرامة التاريخ وموثوقية المعلومة.
يختلف محمد عن المؤرخين العرب في أن السيرة لديه ليست مجرد عمل مكتبي وتنقيب في الأرشيفين العام والخاص، بل هي جولات ميدانية مكثفة تتقصى كل من له علاقة بالشخصية المستهدفة، وزيارة الأماكن التي وجدت فيها لتجيء السيرة متدثرة بإطاراتها الزمنية والمكانية وعلاقتها الجدلية بالأحداث المحيطة وطريقتها في التفاعل معها. هو رجل يكتب تاريخ السعودية حتى لكأنه لم يكتب قبلاً، متنصلاً من الصيغة السردية الجامدة ودافعاً بكل معلومة مهما كانت ثانوية لتأخذ مكانها في التفاصيل، ويستدعي الشهادات الفردية ويجمع الوثائق المنسية، فإذا بالقارئ يتعرف على ناصر المنقور من خلال الحراك السعودي، وتتبلور له ملامح السعودية وتطوراتها عبر العمر الزمني للمنقور، وهذه تجربة سبق لها أن قدمها في شكل متفرد حين أصدر كتابه عن الوزير عبدالله الطريقي.
المعلومة عند محمد هي الحلم بكنز لا يفتر في التنقيب عنه، ووطء كل أرض يمكن أن تحتويه، فلا يعود إلا بصيده كاملاً، أما إن عجز وتاهت منه الدروب فإنه يغلق الملف ويتناسى كل الجهد، فلا يجيء العمل معلقاً بعلامات الاستفهام وتائهاً في مدارات الظنون.
كتب كثيرة، منها الرسمي والخاص؛ السعودي والعربي والغربي، تناولت تاريخ السعودية، لكن لا سجل فعلياً ووثيقاً ومتجرداً يجمع بين التاريخ الاجتماعي والسياسي والإداري، ويمنحه الحضور المستحق وفقاً لأدائه الفعلي من دون تبديل، مثلما جاء في كتابيّ محمد عن الطريقي والمنقور حين يتقرى ملامح المكان وروحه الحية، ويستعير عين الشخصية ليسترجع المشهد كما كان في وقته وظرفه، ويرصد الحياة كأنها لم تغادر غلافها الزمني لحظة واحدة.
الكتابة عند محمد تحقيق صحافي عالي المستوى، يتغذى على أدق التفاصيل ثم يخضعها لاشتراطات البحث التاريخي ومشارطه، فإذا تكومت متكاملة لديه عجنها بلغته السلسلة، فتكون القراءة حقول متعة لكل منها رائحته الخاصة، ولعل هذه المهارة تتأتى من أن الكتابة لا ترهقها متطلبات وظيفية أو تسعى للاستعراض، إنما هي ممارسة خاصة حرة تبحث عن نشوتها المطلقة في الاستقراء والبحث والانجذاب نحو الشخصية بما يشبه الولع الصوفي المستقر في مركز دائرة التاريخ، ولا تبلغ به النشوة حتى الوصول إلى أطرافها الهشة.
بهذا الجهد وباستمراره سيكون محمد مرجعاً شبه وحيد للتاريخ السعودي الحديث في معظم تفاصيله، ومصدراً لتطورات الأحداث فيه وتغيرات الإدارة وأنماط التخطيط، ودور الرجال وملامح الرؤية في السياسة والمجتمع والتحديث.
شكراً محمد، لأنك تطرق دروباً لا يستطيع آخرون بلوغها، إما خشية فخاخها وإما تكاسلاً ترسخه التواءاتها، وإما عجزاً عن امتلاك مهارات عبورها، لكن المستفيد هو التاريخ السعودي الذي يكتسب من ذاته حضوراً بهيجاً ويسترجع صورة غامت تفاصيلها.
جاسر الجاسر
نقلا عن “الحياة”