المصاب الجلل والمسيرة المطمئنة
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
من سنن الله في خلقه سنّة الموت، فهو واقع لا محالة ودرب يسير عليه الخلق أجمعون، ومنهم أحب خلق الله إليه وهم الأنبياء. قال تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ»، وقال عز وجل: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ * أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ». وقد تعامل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مع هذه السنّة بالتسليم والإيمان الراسخ. جاء في الصحيحين عن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه وابن حبه، رضي الله عنهما، قال: أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني قد احتضر فاشهدنا، فأرسل يُقري السلام ويقول: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب»، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتيها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فَرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: «هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده»، وفي رواية: «في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء». وفي الصحيح دخل عليه الصلاة السلام على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «وأنت يا رسول الله؟»، فقال: «يا ابن عوف، إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
ومن أجل هذا فإن الإنسان يجد من الحزن على مفارقة محبوبيه والأعزاء لديه ما يضيق به الصدر وتظلم به الدنيا، ولكن يجبر عزاء المؤمن حسن ظنه بربه وأن فقيده قادم على رب رحيم.
وهذه اليقينيات تجعل العبد أكثر ثباتا وصبرا في التعامل مع ما يجري حوله من الأحداث المحزنة، والمصيبات المؤلمة، ومن ذلك مصابنا الجلل في فقد والدنا وإمامنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي وافته المنية فجر يوم الجمعة الموافق 3 / 4 / 1436هـ، فقد كان – رحمه الله – مرتسما في حكمه على خطى والده الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل ثم إخوانه من بعده – رحمهم الله – محبا لشعبه حريصا على نهضة البلاد في الجوانب العلمية والتنموية والاقتصادية والصحية والاجتماعية، مستكملا ما بدأه إخوانه من الملوك السابقين – رحمه الله – كما أن الحرمين الشريفين لهما أوفر الحظ والنصيب من مسيرة البناء والنهضة في عهده – رحمه الله – إذ ظفرت بأكبر توسعة في تاريخ الحرمين الشريفين، وحفلت المشاعر المقدسة بالتطوير والبناء بما حقق راحة للحجاج والمعتمرين والزائرين من المقيمين والمواطنين.
ومما يسلو به المحزون وتبتهج له النفوس تلك الوحدة والسلاسة في انتقال السلطة من يد القوي الأمين إلى يد القوي الأمين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وفقه الله لكل خير، فهو أمين أسرار الدولة وحامل ملفاتها منذ عهد والده الملك عبد العزيز – رحمه الله – مكنز خبرة وحكيم السياسة، نسج فكره من كتاب ربه وسنّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو متواصل مع وسائل التطوير والبناء والتخطيط، فقد جمع بين الأصالة والمعاصرة، يعظم المعرفة ويحتفي بالعلم والعلماء، ومن جلس مجالسه أدرك ذلك في لفظه ولحظه، ومما يعتز به كل مواطن في المملكة العربية السعودية تراتيب السلطة المميزة التي تمثلت في تولية صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز آل سعود – وفقه الله – وليا للعهد، وتولية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز آل سعود وليا لولي العهد، ليترسخ بذلك عقد الاستقرار في سلم الولاية، وليواصل شعب المملكة بعلمائه وأمرائه ومسؤوليه نحو بناء النهضة المؤسسة على الإيمان والتنمية تُساس بالشريعة الإسلامية الخالدة التي يرسم بها منهج الوسطية والاعتدال في بناء كل الجوانب.
وبهذا المنهج المتوازن في بناء قواعد الحكم في المملكة العربية السعودية تدفن الإرجافات والإشاعات التي ترقب شق العصا واختلاف الكلمة. فالحمد لله على فضله وإحسانه.
أسأل المولى العلي القدير أن يرحم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وأن يجعله في عالي الجنان، كما أسأله سبحانه أن يوفق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لكل ما فيه خير، وأن يسدده ويعينه لما فيه مصلحة الشرع والخَلْق، وأن يجمع به كلمة المسلمين ويوحد به صفّهم، وأن يبارك في نائبيه وأن يجعلهم له إزرًا ومعينًا، وأن يحفظ البلاد والعباد. إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د.صالح بن عبدالله بن حميد
إمام وخطيب المسجد الحرام
المستشار في الديوان الملكي
نقلا عن “الشرق الأوسط”