“التاسعة” لن تجعل الليل سكناً!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
تعشق الثقافة العربية الليل وتتغنى به، فهو ونيس العشاق، ومنبت القصائد، ومسكن المؤامرات والمكائد، ومناخ التأمل، وكل النشاطات التي تفضحها الشمس وتهتك سرها. تسربت هذه الرؤية الفاتنة إلى الليل، إلى النسيج الاجتماعي، حتى إن الدول العربية تشتهر بأن عواصمها لا تنام ليلاً في كل مواسمها، ولا تنتشر الحيوية في مفاصلها، إلا بعد أن تودع الشمس إلى سريرها.
يمكن فهم العشق الليلي للخليجيين، لأن نهاراتهم صيف طويل تتغشاه الرطوبة في بعض المناطق، فما أن ينهي النهار عمله حتى تهب النسمات، وترتدي الرطوبة حلة شفافة عذبة، لكن غير المنطقي هو ليل لبنان ومصر وسواهما، حيث الشمس وديعة لا تحيل جمهورها إلى مفارز تعرق كثيفة الإنتاج، ولا تجعل المشي ظهراً من أشكال التعذيب، ويولد ضوؤها البهي طاقة حيوية تشجع على الانطلاق والحركة. القاهرة وبيروت وكل العواصم اللاحقة لهما لا تعترف سوى بالليل، فلا يتجلى طربها ومسرحها وكل أماكنها، إلا حين تسد أضواء الشوارع غيبة نور الشمس.
الليل هو الثقافة العربية بكل حمولاتها، ومهما كانت الإجراءات والتنظيمات، فإنها لن تجعل الناس يعودون إلى بيوتهم فهم يهربون إليه بحثاً عن الاسترخاء والتنوع. وزارة العمل السعودية تحاول أن تتمكن من إغلاق المحال الساعة التاسعة، وهو قرار لا يتصل بالناس، ولا يهتم بهم، بل كل هذا الجهد جزئي الرؤية، وأناني التوجه، حرصاً على تنظيم النشاط التجاري، وضبط ساعات العمل، أي أنها تجعل البلد بأكمله خاضعاً لرغباتها وتسيره لخدمة أهدافها. ولعل المتضرر من حدوث ذلك هو «الداخلية»، لأن دورياتها ستنتشر في الشوارع التي تصبح الملجأ والميدان، فيما كانت الأسواق مناطق التجمعات الكبرى.
المستفيد من هذا القرار هي المطاعم والمقاهي من حيث زيادة المبيعات ما يؤدي إلى انتشار السمنة وأمراضها وزيادة العبء على «الصحة» التي تعجز مستشفياتها وأسرتها عن استقبال المحتاجين حالياً، ثم إن حالات التسمم ستكون مشهداً يتكرر كل ساعة. لن يعود السعوديون إلى منازلهم، لأن جيلاً كاملاً نشأ وتربى على أن الليل هو الحياة الممتعة حتى لو اقتصر الأمر على دوران غير منقطع في كل شارع. ربما يحل القرار مشكلة تنظيمية عند «العمل»، لكنه سيولد مشكلات كثيرة لجهات أخرى.
بعض المؤيدين يقولون إن الأسواق تغمض عينيها مبكراً في كثير من البلدان، لكن الفارق أن الناس هناك يجدون مناشط أخرى تلبي اهتماماتهم ورغباتهم، بينما الحال في السعودية عودة إلى الحيرة والحركة العشوائية، فلا أماكن بديلة، ولا خيارات متاحة، فالناس لا يتدفقون على الأسواق شرهاً ونزوعاً للتبذير، بل لأن لا شيء آخر يفعلونه.
كل الطروحات المؤيدة تتفق على فوائد توفير الطاقة، وتنظيم العمل وزيادة أرباح المحال التي ستنخفض نفقاتها المختلفة، أما الشيء الغائب في كل ذلك هو الإنسان ماذا سيحدث له؟ ومدى تضرره من ذلك؟
التنمية ليست قوانين وتنظيمات، وإلا كانت السجون أفضل الأمكنة، بل هي حقوق للفرد وللعناية به، أما حين يغيب عن كل إجراء فهو ليس طرفاً في العملية، وهو الخاسر الأول في كل قرار جديد.
إن أغلقت الأسواق فسيكون الشارع هو الخيار الوحيد الذي لا يمكن خفض ساعات عمله، وإغلاق مساراته فهل ستظهر مطالبة تمنع الناس من التجول ليلاً؟
جاسر الجاسر
نقلا عن “الحياة”