السعودية تخطو بثبات لتصبح وادي سيليكون التعدين

د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب

انتعشت الصناعات التقنية في الفترة من عام 1955 و1985 بوادي السيليكون، وبرزت شركات مثل بل تليفون وشوكلي سيميكوندكتور وزيروكس، وكان لخريجي جامعة ستانفورد دور مهم في تنمية وادي سيليكون وتشجيع الخريجين على تأسيس شركاتهم الخاصة في وادي السيليكون، ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي كان هناك العديد من شركات أشباه الموصلات تستخدم هذه المنتجات شركات الحواسب في حين تخدم شركات البرمجة، اشتهر وادي السيليكون في السنوات الأخيرة بسبب الإبداع في البرمجيات وخدمات الإنترنت، أسهمت مبتكرات زيروكس في ظهور 3 كوم وأدوبي سيستيمز وسيسكو وآبل كمبيوتر ومايكروسوفت. لكن لا يمكن الحديث عن منطقة خليج سان فرانسسكو دون الحديث عن الجيش الأمريكي إلى جانب جامعة ستانفورد اللذين كان لهما دور مهم وكبير في التطور المبكر لوادي السيليكون من خلال الإنفاق الثابت للجيش الأمريكي، حيث تأسست القاعدة الجوية البحرية موفيت فيلد عام 1931 ولعبت دوراً استراتيجياً في تطوير وادي السيليكون، وفي المنطقة المحيطة بالقاعدة ظهرت مجموعة شركات التكنولوجيا لخدمة البحرية الأميركية مثل شركة لوكهيد للقذائف والفضاء، بجانب أول شركة ناشئة لأشباه الموصلات فيرتشايلد بتمويل من وزارة الدفاع التي ساعدت في إرسال رواد فضاء أميركيين، وساعدت في بناء صواريخ سلحت الولايات المتحدة في الحرب الباردة.

تسعى السعودية لتكون ضمن اللاعبين الكبار عالمياً في قطاع التعدين، وتعمل على الربط بين المستثمرين وأصحاب الفرص من مختلف دول العالم في وقت تزداد فيه الحاجة للمعادن الحرجة الضرورية لتحقيق الانتقال الطاقي؛ من أجل تحويل هذا القطاع إلى ركيزة أساسية في خطتها لتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، بهدف رفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي إلى 15 في المائة بحلول 2030.

أصبح هذا القطاع بؤرة اهتمام السعودية خصوصاً بعدما رفعت السعودية في 2024 تقديراتها لإمكانيات الثروات المعدنية غير المستغلة من 1,3 تريليون إلى 2,5 تريليون دولار، وعملية جمع المعلومات الجيوفزيائية والجيوكيميائية في الدرع العربي الذي يمثل ثلث مساحة السعودية التوصل عن وجود 57 معدناً والبحث بشكل خاص وموثوق عن المعادن الحرجة على رأسها الذهب والزنك والنحاس والكوبالت الضرورية لتحقيق التحول الطاقي بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي.

سعي السعودية قدماً لوضع نفسها على خريطة المعادن المهمة عالمياً ولتكون وادي السيليكون في مجال التعدين، أعلنت السعودية عن إطلاق مبادرة استديو الابتكار التعديني الذي يهدف على جذب المواهب العالمية، وتسريع التكنولوجيا الحديثة، وهذه خطوة واحدة نحو جعل السعودية وادياً سيليكونياً للتعدين، وأطلقت القيادة الإقليمية في أفريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية لجمع الموردين لإنشاء مجتمع عالمي قوي لمناقشة قضايا صعبة مثل توزيع الموارد، والاستدامة، وإشراك أصحاب المصلحة، خصوصاً أن العالم يواجه تحدياً كبيراً في تأمين إمدادات المعادن الحيوية الضرورية لتحول الطاقة واستدامتها، بعدما أصبح التعدين قضية مركزية في مجال أمن الطاقة العالمي، مع تجنب التبعات البيئية، وتسهم عمليات التعدين والمعالجة حالياً في نحو 5 غيغاطن من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعادل 12 في المائة من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمية سنوياً، وقد حذر وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان من التسرع في تأمين الوصول إلى الموارد سيؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة الانبعاثات وارتفاع أسعار المعادن وارتفاع تكاليف الطاقة، فيما الجهود الدولية تسعى نحو التركيز على إيجاد حلول مستدامة وإدارة أفضل للموارد لتعزيز الاستثمار المسؤول والمتوازن، وسيكون الطلب على الليثيوم 7 أضعاف وفي نفس الوقت لكل طن ليثيوم هناك 15 طناً من الانبعاثات الكربونية.

تهدف السعودية لئلا ينحصر نشاط التعدين في الاستثمار المحلي، بل تسعى نحو التعاون مع دول عدة لتوسيع أنشطتها التعدينية في البرازيل ضمن مساعيها لتوفير المعادن اللازمة للتحول في الطاقة، خصوصاً أن البرازيل لديها معادن مهمة جداً مثل الليثيوم والنحاس والكوبالت والنيكل، وبالفعل فتحت شركة معادن السعودية لها مكتب في ساو باولو بعدما أبرمت منتصف 2023 أول صفقة تعدين كبرى بشراء حصة تبلغ 10 في المائة في وحدة المعادن الأساسية التابعة لشركة فالي البرازيلية بقيمة 2.6 مليار دولار يساعدها بمرور الوقت على توفير الوصول إلى إمدادات المعادن الاستراتيجية.

هناك 4 شركات صينية وهندية وأسترالية وسعودية، تأهلت إلى جانب تحالف كندي للمنافسة على رخص للتنقيب عن المعادن الأساسية والثمينة في أول أحزمة متمعدنة من نوعها في السعودية في موقعين غرب وجنوب السعودية، على مساحة تصل إلى 50 ألف كيلومتر مربع توازياً مع إعلانها عن تطوير مشروع استثماري جديد للمعادن في السعودية بقيمة 100 مليار دولار، في تهافت واضح على دخول قطاع التعدين النشط في السعودية ضمن نظرة شاملة لكامل سلسلة التوريد التي تمتد من استخراج المعادن إلى التكرير وإعادة التدوير بجانب اهتمام الاستثمار بالبنية التحتية.

حددت شركة أرامكو السعودية تركيزات واعدة من الليثيوم تتجاوز 400 جزء في المليون في المناطق التي تعمل فيها، يمكن بدء الإنتاج في 2027، كما كشفت الشركة عن مشروع مشترك مع شركة التعدين العربية السعودية معادن لاستكشاف وإنتاج المعادن المرتبطة بتحول الطاقة، بما في ذلك استخراج اللثيوم من الرواسب عالية التركيز.

– أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية سابقاً بجامعة أم القرى

نقلاً عن صحيفة “الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *