“الزُّبَيْر.. ماضٍ ما طواه النسيان
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
الزبير ماضٍ ما طواه النسيان، حيٌّ في ذاكرة من عاش فيه وسكنه، وممدود في كتابات من أرخ، أو زائر وصف، يتفاوت نتاجهم في التأصيل والتوثيق والموضوعية. الزبير تُعتبر بلدة كسائر البلدات في طبيعة التموج صعودا ونزولا وأحداثا وتحديات، وهي نجدية الجذر والْقِيَم والطباع والهوى، أهلها قَدِموا من وسط الجزيرة العربية، هجرات تَتْرى عبر الزمن، منها قديم بضعة قرون، وغيرها تالٍ متأخر عديد سنين. عُرفت الزبير أنها تتنفس هواء العلم والتعلم، وهذا مبكرا فيها حيث تأسست كتاتيب ومدارس، فاضت بمتعلمين ومدرسين ترامى أثر بعضهم في بعض بلاد الخليج العربي، ونجد والحجاز وحتى العراق. الزراعة والتجارة مهنة انتشرت بين أُسْرَها، وكان تملَّك النخيل في البصرة عند بعضهم تشامخ في كثرته وبساتينه. طين لازب وتجصيص رمزية بيوتها لأزمان، يُحاكي طراز ما هو في نجد. الزبير نياط روابطها متوارث قديم ولاء وانتماء لبلاد الحرمين منذ بذرة التأسيس وما تعاقب في لحمة توحيد المملكة العربية السعودية المباركة.
أخذت الزُّبَيْر اسمها من الصحابي الزُّبَيْر بن العَوّام الذي قُتل بعد يوم الجمل ودُفن في وادي السباع الاسم القديم للزبير، وكان هذا عام 36هـ، وكان حادث المقتل متواتر عند أهل التراجم والسير، وهو على يد عمرو بن جُرْمُوز حين استدبر الزبير فطعنه من خلفه فِي جُرْبَانِ دِرْعِه، وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه، وَخَلَّى عن الغُلام الذي معه، فدفنه بِوَادِي السِّبَاعِ، ورجع إلى الناس بالخبر.
ومما يذكر كذلك في تأريخ العثمانيين أنهم أقاموا على قبر الزبير مسجدا زَينّه السلطان سليم الثاني بقبه عام 1689م وهو ابن السلطان سليمان القانوني، حيث أكسب هذا الإنشاء زوارا وساكنين ومحط قوافل تطور ونما لاحقا بمرور حملات العقيلات النجدية.
جغرافية الزبير تندب ذكر إرث قديم عربي إسلامي لمكان اسمه المِربَد أو سوق المِربَد، وهو سوق للإبل حيث تُحبس فيه وبهذا سُميَّ المِربَد. الفراهيدي وأبو الأسود الدؤلي وعبدالله بن المقفع والجاحظ والكندي وسيبوية والأصمعي وغيرهم، كانوا يأتون هذا المِربَد وقد تهيأت خيام وسرداق يتبارى شعراء فيها. الأعراب كذلك تغشىاه وأهل اللغة والشعر يأنسون بهم في تصاريف كلام ومفردات. هكذا كان المربد اجتماعا يتنوع أنماط ما فيه، أعراب وجِمَالهم وأحمالهم، وأُدباء ومجالسهم، وأهل ثراء مُحبين شعر بسرادقهم، مشهد استلهم ماضي سوق عكاظ في مكة، بل ورث دور بعد الفتح الإسلامي ليكون عكاظ ثانٍ.
ياقوت الحموي المُتوفى سنة 626هـ وهو شاعر ومؤرخ وخطاط رومي العِرق يذكر في معجم البلدان؛ أن المِربد يبعد ثلاثة أميال عن البصرة (الزبير حاليا) ظل مزدهرا حتى بدايات القرن الخامس هجري. بالمناسبة أُعيد إحياء المربد أواخر الستينيات من القرن الماضي فتوافد علية الأدباء والشعراء كالجواهري ونزار قباني وفقيدنا الأديب السعودي الشاعر عبدالله بن إدريس وغيرهم كثير.
الزُّبَيْر تقع في الجزء الشمالي الشرقي للجزيرة العربية شمال الخليج العربي في الجنوب الغربي لمدينة البصرة. وهي بوابة نجد على العراق بين الصحراء وأرض السواد حيث البدو والحضر تجمعهم قوافل الجزيرة عابرة إلى أرض الرافدين ثم إلى الشام. منهم عقيلات مرحوا وعبروا. كانت أزمان الهس للجِمال وحاديها لا ينقطع فِيهَا، مذكرا أهل الزبير وعامروها حنين نجد أرضهم الأولى. وهنالك من امتهن الفِلاحة حيث وجد بُغيته في الزرع مثلما عرفها في نجد، كما وجدوا هواء جافا وماء دفّاقا.
بدايات الزبير عصامية وشظف عيش ابتغاء وجود وتمكين. ذكر المستشرق جون كارمايكل في رحلته من حلب إلى البصرة بطريق البادية وصف الزبير بملحق في كتاب لغيره اسمه رحله إلى جزر الهند الشرقية طُبع عام 1772م سجل تلك النشأة قائلاً؛ “الزبير قريه بائسه مُشكلة من عدة أكواخ التي يعمرها الستمائه إلى السبعمائة فرد”. هكذا تاريخيا خلال القرن الثامن عشر ميلادي، الزبير بلدة صغيرة محدودة في سكان وبنيان. ولكن مع توالي الأزمان، وجهد وعمل طالت ذروة ذكرها مؤرخ ونسابة نجد عثمان بن بشر في كتابه عنوان المجد في تاريخ نجد؛ “أن الله فتح على أهل الزبير وأثابهم من خير الدنيا وزينتها وكثر رجالهم وأعوانهم وخدمهم”.
الزُّبَيْر جذبت بعض الرحالة المستشرقين بالمرور عليها فوصوفها في مُدوناتهم، ومن هؤلاء ما كتبه جون كارمايكل الإسكتلندي زارها عام 1751م، تبعه بعدها نيبور الألماني الذي عمل لصالح الدولة الدنماركية عام 1765م، ولوريمر الإنكليزي بداية القرن العشرين الميلادي وهو صاحب السفر الذي دوّن دليل الخليج باربعة عشر مجلد، وكان مكلفا بذلك من حكومة الإنكليز بالهند، وكذلك المستشرق الفرنسي ماسينون زارها عام 1905م وهو أستاذ عميد الأدب العربي طه حسين.
المستشرق الإنكليزي لوريمر وصف الزبير في بداية القرن العشرين الميلادي قائلاً؛
“أما بالنسبة للتجارة فقد كانت الزبير في هذا الوقت سوقاً هامة بالنسبة للمناطق المحيطة بها خاصة قبائل البدو، وكان الكثير من السكان يعملون بالتجارة، وكانت البلدة تصدر الجص والجبس والجير والصنادل والسروج التي هي من نتاجها الذاتي “.
ومما هو مذكور كذلك أن الزُّبَيْر مع إرهاصات قيام الدولة السعودية الأولى أواسط القرن الثامن عشر ميلادي تأثرت كحال نجد، وكُتب لها أن تستقبل الشيخ محمد بن عبدالوهاب خارجا بعد شدة إيذاء من البصره فواسته. وحين تمكَّن الدولة السعودية الأولى في بسط الأمن في نجد نشطت الزبير في حمل التجاره إلى الدرعية فأفادت وأستفادت.
الزُّبَيْر كذلك أستضافت في بدايات تكوين الدولة السعوديه الثالثه عام 1905م الإمام عبدالرحمن بن فيصل والد المؤسس الملك عبدالعزيز مع والى البصره العثماني للتفاوض حول أوضاع القصيم بعد عدة معارك مع بن رشيد والاتراك. يُذكر أن الملك عبدالعزيز بعدما أستقر به الحال قَدَّر موقف أهل الزبير والعقيلات لولائهم للدولة السعودية. بعدها سارت بالزبير دورة تاريخ ارتباط بوطنهم الأم دفاعاً وولاءً لِتتلقى زيارة الملك سعود عام1957م. ومن طريف ذكر في هذا الباب ما نقله كتاب “الإعلام في أعيان بلد الزبير بن العوام” ومؤلفه عبدالله بن إبراهيم الغملاس عن أحدهم أسمه دخيل بن مطلق الدهيش شاعر يجيد الزهيرى(لون من الشعر النبطي)مُتُوفى بالزبير عام 1328هـ كان في نزهة بالدرهمية(برية في الزبير) سمع أحد من أهل البصرة يغني بزهيري قديم يمدح انتماءه، فاستحضر دخيل زهيري رد يمدح أهل العوجا(مدينةالدرعية في العارض بنجد) قائلا؛
يا ناشد هل العوجا ندوس الخطر
نرعب لقلب العدو يخشى علينا يخطر
مجربين معطين للعاني الخطر
وحنا على رغم الأعادي نفت
بالك تعلي ترى نمرس لجبدك نفت
وابلادنا عنها الأناذل نفت
ما يوم بقلوبنا كيد المكيد يخطر
الزُّبَيْر جرى بها خلافات بين أُسرها الحاكمة سوغ للسلطات العثمانية ليصبح لهم شُرَطْ بجانب الشيوخ درءاً للفتن والانقسام إلا ان هذا التنافس الاسري، والأثر العثماني المباشر أدى إلى ضعف البلدة وانتهاء الحكم المحلي فيها، ورغم أنتهاء مشيخة الزبير وتغير الأحوال لمسارات خطوط القوافل التجارية عما كانت عليه سابقا. ظلت الزبير استثنائية بهويتها النجديه ومخزونها التاريخي للعادات والطباع واللهجة والأنتماء حتى يقول من دخلها هل أنا في نجد أم العراق هذا ما رُوِي عن عبدالله بن الحسين ملك ومؤسس الأردن حينما زار الزبير عام 1941م. وَهوَ كذلك حال أهلها وكأن احدهم حنينه لنجد يقول؛
سقى الله نجداً والسلام على نجدٍ
وَيَا حبذا نجداً على النأيِ والبُعْدِ
هكذا كانت الزُّبَيْر في موروثها الماضي ألهمت كثير من الكُتاب تنوع طرحهم عن تاريخها وأهلها وعلمائها وحكامها وشعرائها وتُجارها ومشاهيرها ليمتد تاليا ذكر أبناءها في وطنهم الأم خدمة ووفاء.