على خطى (جاك) ركمانز
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
مشروع علمي اقترحته دارة الملك عبدالعزيز وتبنته منذ ما يزيد على العقدين (إن لم تخني الذاكرة)، وقتها تواصل معي معالي أمين عام دارة الملك عبدالعزيز “الدكتور فهد بن عبدالله السماري” عارضًا عليّ إجراء مقابلة مع ركمانز بحكم معرفتي الشخصية به. ورغم عرضه المغري إلا أني لم أتمكن من تحقيقه، فقد كنت حينها معارضًا لاستقدام “سائق منزلي”، فأنا من مؤيدي قيادة المرأة؛ ففضلتُ البقاء ونقل الأبناء من وإلى المدارس. واقترحتُ على معاليه الأخ والزميل “سعيد بن فايز السعيد”، فهو خير من يقوم بالمهمة، فقام بكل اقتدار بإجراء المقابلة ونقل المادة العلمية التي في حوزة “ركمانز” إلى الرياض.
وهدفت البعثة التي حملت اسم “كونزاك ريكمانز” -كما فهمت- إلى عدة أمور، أهمها: إلقاء الضوء على أول بعثة أثرية في وسط المملكة وجنوبها في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، وإعادة تصوير المواقع وتوثيقها.
وتكونت البعثة من: “كونزاك ركمانز”، وفيليب ليبينز” الخبير في تخطيط الرسوم والآثار القديمة، وجاك ركمانز المتخصص في النقوش العربية القديمة إضافة إلى المؤرخ القدير عبدالله فلبي- جاءت إلى المملكة في العام 1951م بدعم كامل من لدن صقر الجزيرة الملك “عبدالعزيز آل سعود”، واستمرت مدة أربعة أشهر.
وتعود معرفتي بهذا العالم الكبير “ركمانز” إلى ما قبل “40” عامًا، عندما رشحه مشرفًا على دراساتي العليا أستاذنا المرحوم بإذن الله تعالى “الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري”، فقد درج الأنصاري على اختيار المشرف وليس الجامعة أو القسم. وكانت اختياراته ليّ ولزملائي وأخوتي لأفضل الباحثين والعلماء في مجالهم. ولم تمضِ أشهر بعد تعييني معيدًا في قسم الآثار والمتاحف – المسمى الشامل والجميل – في العام الدراسي الهجري (1402/ 1403هـ) إلا وانتقلتُ إلى مدينة “لوفان لانف” البلجيكية لإكمال دراساتي العليا في الكتابات العربية القديمة وتحديدًا الآرامية والنبطية.
وبعد وصولي إلى مقر جامعة “لوفان لانف” التقيتُ للمرة الأولى بهذه الشخصية المختلفة، فقد امتاز بتواضع رفيع وخلق لافت ولسان مؤدب وحرص شديد وسماحة وسلاسة دون تفريط. وهذه الشخصية الخلوقة لمن لا يعرفه ولد في عام 1924م من عائلة بلجيكية ذات مكانة اجتماعية رفيعة في المجتمع (أرستقراطية). ولا أعلم على وجه التحديد لماذا اختار العمل في مجال النقوش! رغم أن جل عائلته تقلدوا مناصب سياسية رفيعة إلا أن تأثير عمه عليه -فيما يبدو- قويًا فعمه صاحب “معجم الأعلام العربية الجنوبية”، كان أبرز العاملين في مجال الكتابات العربية القديمة. وهكذا اختار ابن الاخ “الخجول” السير على خطى عمه في علم الساميات.
وسأتوقف في هذه العجالة عند شخصيتين، قابلتهما في معهد الدراسات الشرقية: “ركمانز، والأب دوني”، والأخير أستاذ مادة الآرامية التوراتية في السنتين الأولى والثانية.
ركمانز كان بحق أستاذَا وعالمًا وراعيًا من خلال أسلوب تدريسه وتعامله؛ وكان راقيًا في معظم جوانبه ومنها أسلوبه في عتابه على خطأ ارتكبه في أثناء تفسيري أو استنتاجي غير المرجح للنقوش والمصادر، فلا ينظر إليّ مباشرة، بل يوجه نظره إلى النافذة ثم يبدا بعتابه اللطيف.
أذكرُ ثلاث قصص، الأولى: كنا ندرس نقوشًا سبق أن نشرها العالم الألماني “ليتمان” وكنتُ (وما زلتُ) من المعجبين بهذا العالم الفذ في: تنوع دراساته وأصالتها، فقلت له مرة: “كم أتمنى أن أكون يومًا مثل ليتمان”، فصدمني بقوله يا “سليمان … أنا على ثقة أنكَ ستكون أحسنَ منه”. وفي البداية استغربت قوله هذا إلا أنه أكده بعد اعتراضي، فكان أن أدخل في قلبي ليس السرور فحسب، بل التحدي في أن أعمل في قادم الأيام لأكون “أحسن من ليتمان كما قال ركمانز”.
الثانية: دعاني يومًا للقاء به في مكتبه، وقال ليّ: “هذا كتاب الصليبي المعنون: التوراة من عسير”، وشرح باختصار مضمونه، الذي تبين مخالفته للدراسات الحديثة ومعارضته لها. فقلت له “ما دمت ترى أن معلوماته خاطئة بقولك حرفيًا: (لو كان ما قاله صحيحًا لوجب علينا إغلاق مكاتبنا واعتزال التدريس والبحث)، فكيف توصي بنشره”؟
فرد عليّ: “هذا الكتاب سيترجم إلى العديد من اللغات وسيدر أموالًا على دار النشر، وهو علميًا لا يصلح، فموافقتي للمكاسب المالية التي سيحظى بها الكتاب فقط”.
الثالثة: المعلوم أن أساتذة الغرب يتعاملون مع تلاميذهم كأصدقاء وزملاء، ففي مرة كنا نتريض في أزقة الجامعة وشاهدنا كلابًا في الساحة، فقلت له: “هل تمتلك كلبا”؟ فأجاب وبصرامة: “لا … أنا لا أحب الكلاب، زوجتي رَغِبَتْ في اقتناء كلب فخيرتها بيني وبين الكلب”. فادهشني وضعه لنفسه موضع المقارنة مع الكلب ومع دهشتي هذه لم أعقب على رده.
أما (Le pere Donnie) “الأب دوني”، فهو من طائفة مسيحية ما زالت تتمسك بتقاليد قديمة، مثل: ارتداء أفرادها ملابس تعود إلى كهنة العصور الوسطى، تشبه إلى حد كبير “الخيش”، وتؤمن -هذه الطائفة- بما يُعرف اليوم بـ: “الاشتراكية”، إذ يقوم أفرادها بتسليم دخولهم “مرتباتهم” إلى مجموعة في هذه الطائفة التي تتولى رعايتهم وقضاء مصالحهم حتى الوفاة. وكان “دوني” طويل القامة ضعيف البنية، لم أره طوال السنتين التي أمضيتها في الجامعة (سواء في الساحات أو الأزقة) راجلًا إلا وهو يقرأ الكتاب المقدس.
إحدى قصصي الطريفة معه والتي تعلمتُ منها درسًا لازمني -إلى حد ما- في حياتي العملية، فقد كنا في إحدى محاضراته نتدارس قصة إبراهيم عليه السلام وزوجته، ولاحظتُ أن الآيات أسرفت في وصف جسدها.
فرفعتُ يدي أمام الطلاب والطالبات، وهدفي كشف سذاجة هذه الروايات وعدم مصداقيتها أمامهم، فأذن لي بالحديث، فقلتُ: “هذه التفاصيل عن جسد زوجته لا ترد في القرآن”؛ فنظر إليّ كأنه غير مصدق لهذه الفرصة ليلتهمني أمام الطلاب، وأنزل نظارته قائلا: “من أجل هذا نحن نقول إن القرآن يأخذ من كل بحر قطرة”.
فكان أن تعلمت ضرورة التفكير والحذر قبل الدخول في نقاش لستُ مستعدًا له، فلا لغتي الفرنسية تسمح لي -وقتها- الدخول في هكذا نقاش، ولا خلفيتي الدينية، فقررتُ أن يكون التريث في النقاش في هكذا مواضيع ديدني.
تبين ليّ بعد وصولي إلى الجامعة أنها حديثة نسبيًا فمبانيها حديثة وجيدة، ولكنها ليست فخمة، بل عملية ودائمة الاستمرار (كما ذكر سمو ولي العهد عن الفارق بين قواعد العسكرية في الغرب ولدينا، فالأخيرة تمتاز بالفخامة غير المطلوبة).
وقد وصلت إلى هذه المدينة الحالمة بعد عدة أشهر أمضيتها في مدينتي “فيشي ورويان” الفرنسيتين لتعلم اللغة الفرنسية؛ حيث كان أول لقاء ليّ بعد استلامي للاستيديو (غرفة، صالة صغيرة مع مطبخ، وحمام) -وأنا في طريقي للمعهد- هو لقائي بكاهن الكنيسة في أثناء نزوله من العمارة المقابلة لعمارتي، ومع ابتسامة ترحيبية سألني: “من أين أنت؟”
ولم يمهلني للإجابة على سؤاله، فقال: “من لبنان؟”، قلت: “لا؟ فأردف قائلًا: “من سوريا فنفيت ذلك، فاستمر في طرح الدول التي يتوقع أني منها، مثل: المغرب، الجزائر، تونس وبعد أن دار شرقًا وغربًا بالدول العربية- أخبرته أني من المملكة العربية السعودية.
على الفور دلني ودون تردد -مع تغير بسيط في وجهه- على مسجد المدينة وأشار بيده إليه. ثم أسرع الخطى. وكنتُ أراه كل يوم أحد في أثناء استقباله للمصلين في كنيسته مع ابتسامة واضحة، وعندما يراني وأنا سائر إلى وجهتي يرفع يده مبتسمًا.
أخيرًا كل الشكر لدارة الملك عبدالعزيز على التخطيط لمثل هذا المشروع، الذي لم يكتب له النجاح لولا مساندة هيئة الآثار ودعمها، فللأخوة في الهيئة كل الشكر والعرفان.
ولعلي أختم هذه العجالة بتذكير معالي “السماري” بمشروع “على خطى النبي عليه أفضل الصلاة والسلام” الذي يهدف إلى تحقيق مساره -بأبي هو وأمي- من المدينة المنورة إلى تبوك، وتحديد منطقة عذاب قوم النبي صالح عليه السلام في وادي القرى، إذ يترتب على هذا أحكام شريعة (شخصيًا لا أرى أن الحِجْر هي ذلك الموقع). ولعل الدارة تنتهز دعم الهيئة للبدء بهكذا مشروع، فتقوم بتنفيذه.