ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله

أحمد بن عبدالله الحسين

المكر السيئ تصميم على شرك وضلال، وتكذيب للهدي معاندة واستفراد واستكبار عنه، وصاحب المكر يستولي عليه حقد دفين يغلي في قلبه. ومثل هذا المكر السيئ يحفر للغدر، ويُسقط الغير في البئر. كما وصفه تقي الدين الهلالي قائلا؛
وحافرُ بئرِ الغَدْرِ يسقطُ في البئرِ
وكم حافرٍ لحدًا ليدفنَ غيرَه
على نفسِه قد جَرَّ في ذلك الحفرِ
وكم رائشٍ سهمًا ليصطادَ غيرَه
أُصِيب بذاك السَّهمِ في ثغرة النَّحرِ

وهكذا الدنيا الشر والخير معقود بناصيتها، والغدر في البشر لا يبارحها؛الأيام تغدر كلّ حين، فما يغني عن الموت الدّواء. وناموس العدل في البشر يطال صاحب المكر السئ ولو بعد حين “وليس يحيقُ المكْرُ إلَّا بأهلِه”. ولابن القيّم الجوزية قول عن هذا؛ وقد شاهد الناس عياناً أنه من عاش بالمكر مات بالفقر. وهنالك دلالة حكمة لعلي بن إبي طالب كرم الله وجه” ثلاثٌ من كن فيه فهي راجعة على صاحبها. البغيُ والمكرُ والنَّكْثُ، وبئس طالبُها. ثم قرأ ﴿ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله﴾ ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ ﴿فمن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾”. والعرب تقول؛”ومن حفر لأخيه جُبًّا أوقعه الله فيه منكبًّا”، وقيل؛”رُبَّ حيلة كانت على صاحبها وَبِيلة”،وهذا المفهوم سائر في البشرية أنه لا ظَفَرَ مع البَغْي.

الماكر بذكائه يظن أن الحياة غابة يأكل القوي الضعيف، وبتكابره يعتقد أنه لا أحد رادع له، بل ينسى أن الله قادر عليه وقد يمهله ولا يهمله، يسلط عليه أقدار، وظالمين غادرين أقوى منه. والمظلوم من المكر عند الله معلوم، ودعائه وألمه في اللوح محفوظ ومرسوم، يأتي قصاصها في الدنيا عبرة وعظة، ويكون عند الله يوم القيامة أشد وأبقى. وبهذا يقول الامام الشافعي:
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ
إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ
فحَسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ
فلا خيبة أمل لكل من رفع يديه في ظلمة الليل ودعا، ومن قهر الماكرين أكتوى، فليثق الإنسان بربه وقد يأتيه بردا وسلاما يشاهده في عمره.

قصص القرآن في هذه المعاني وافرة مثلا؛ فرعون حاق مكره السيء به حينما أمر بقتل أطفال بني اسرائيل خوفا من موسى، فكان قدر الله أنه ربَّى موسى في بيته وأمام عينيه، وحين عرف أمره هدد وأرعد، وأراد قتل موسى فغرق فرعون ومن معه. وكذلك أبو جهل أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج لمعركة بدر بخيلاءه، فتم رميه في قليب بدر بسبب استكباره وكفره بالله والرسول. المكر في حياة البشر قد يلحق المتميز لمن له معرفة وافرة، وكتابة مؤثرة، وجاه معتبر ،وصنعة ظاهرة، وفن ذائع، وهذا لا ينتهي، تنافس وتدافع بين الناس.

ناموس العدل لا يتبدل أو يتغير، في قوله سبحانه”فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً” تأكيد لهذا الثبات، وتعليل سبب لما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب.
أى؛ هذه سنتنا وطريقتنا في الماكرين والمكذبين لرسلهم، أننا نمهلهم ولا نهملهم، ونجعل العاقبة السيئة لهم. ولن تجد لسنة الله في خلقه تبديلا بأن يضع غيرها مكانها، ولن تجد لها تحويلا عما سارت عليه وجرت به.

وفي ثنايا عوالم البشرية منذ القدم ولم تبرح عبر الدهر، يوجد مصير يختم حياة البشر، والتأوه من ضلال وظلام وقهر أنتقام، نستل رمزية تمثال يحكي لجلجامش وهو يحمل أسداً وأفعى موجود في متحف اللوفر باريس يعود إلى 800 ق.م، وتمثال آخر يشبهه في متحف بيرغامون ألمانيا. جلجامش يعبر عن حيرته وألمه في مقطوعه ضمها اللوح العاشر في ملحمته يخاطب أحدهم قائلا؛
إن الموت قاس لا يرحم
هل بنينا بيتاً يقوم إلى الأبد
وهل ختمنا عقداً يدوم الى الأبد
وهل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى إلى آخر الدهر
وهل تبقى البغضاء في الأرض إلى الأبد
وهل يرتفع النهر وياتي بالفيضان على الدوام
والفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس حتى يحل اجلها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *