فارس تاريخياً ،، منبت لديانات وفِرَق باطنية

أحمد بن عبدالله الحسين

الفُرْس- كغيرهم- اعتقدوا ديانات قديمة كالزرادشتية (المجوسية) والمزدكية المانوية. تجذرت هذه الديانات في الموروث الفارسي. أما المذاهب والأفكار ومفاهيم التأويل الباطني فلها كبير نصيب وأثر، أفرز عبر التاريخ مماحكات وهرطقات، وتأسيس فِرَق صدها إلى اليوم، منها فيه إشاعة ثقافة لا تخلو من تصدير خرافة وتزييف حقائق.

الفُرْس دهاقنة منذ القدم، تميزوا بالدهاء والتأني، وتاريخهم يمتلئ بهذا قبل الإسلام وبعده، وعبر الزمن تمكنوا في بذر مضامين باطنية اتخذت منحى التأويل المخالف لعموم المسلمين، من خلال استغلال فهم ثغور ممكنة تُنشر في مضامين الدين، طالت بداياتها عهد الخلافة الراشدة ثم الأمويين والعباسيين وأفعالهم، وما تلاها في حِقَب الزمان.

مقابل هذا هنالك من الفُرْس من حسُن إسلامه، وخدم المِلّة، وأماط لثام العلوم، وقدم ثراءً معرفياً تنوع جِناسه في موروث الأمة الإسلامية.

الديانات الفارسية أقدمها المجوسية التي تمرحلت عبر التاريخ القديم حتى ظهور زرادشت، الذي سُميت ديانته المجوسية الزرادشتيه، وهنالك الديانة المزدكية والمانوية ما قبل الإسلام. الزرادشتية نشأت من معتقدات هندو – إيرانية قديمة، وكان الهندو-إيرانيين عبارة عن شعوب تنتسب إلى أعراق تسمى مجموعة هندو-أوروبية. هذه الشعوب طبيعتها رعوية شبه مُرتحَّلة، تتنقل في السهوب الجنوبية لروسيا شرق الفولغا ووسط آسيا. شكلت تلك القوميات تراثا دينيا قوميا بقيت عناصر منه إلى وقتنا الحاضر في الزرادشتية والهندوسية.

آمنت تلك الشعوب بقدسية النار والماء، وعبدوا مجموعة من الآلهة الطبيعية كالأرض والسماء والشمس وغيرها، وكانوا يعتقدون بأن العالم مقسم إلى سبع مناطق أكبرها الذي يسكنه البشر تتشاطره ثنائية بمثابة آلهة “آشا”جوهر القانون الطبيعي، وهو أيضا النظام والحقيقة ويقف على تعارض منه “دروغ”الذي يمثل الفوضى والكذب، بل هنالك تعدد للآلهة يشمل ثلاثة آلهة كبرى أخرى وهي”فارونا” إله القٓسٓم وسيد الماء، “وميثرا” إله العهد وسيد النار، “وآهورا مازدا”الذي يعني حكمة الرب.

زرادشت عاش ما بين القرنيين السابع والسادس قبل الميلاد، وهناك دراسات حديثة تشير إلى تاريخ أقدم بكثير، كتب زرادشت سبع عشرة ترنيمة شعرية جُمعت فيما يعرف باسم”غاثا”، فيها بنية ثيولوجية، أو ما ورائية تنتهي بالانتصار المحتوم للخير على الشر. النار عند الزادشتية مقدسة على أنها رمز للنور، ونور الرب، وحارس النار هو مقدس، لذا الصلوات تقام أمام النار إضافة إلى الحرص على إبقاء النار مشتعلة بشكل دائم في المعابد الكبرى.

يتمتع الزرادشتي في إيران بحرية العبادة، ولهم معاملة اليهود والمسيحيين كأهل كتاب لأن الآفيستا كُتّاب الزاردشتية يحظون بتقدير في إيران . تتركز الزادشتية في إيران غالبا في مدن يزد وكرمان وطهران، ولهم لهجة تسمى داري وهي غير اللغة الفارسية الرسمية المستخدمة.

الديانة المزدكية ظهرت في فترة حكم الساسانيين لفارس، التي انتابها نصف قرن من تدهور الأحوال والفوضى والفقر. حينها برز على مسرح الأحداث مزدك بن موبذان المولود في فارس، وهو كاهن زرادشتي إصلاحي. مزدك هذا كان متمسكا بعقيدة الرؤية الثنائية للوجود وهي الخير والشر، والظلام والنور، وكان ملتزما في حياته بالتنسك وتحريم أكل اللحوم. مزدك يعتقد أن الخير بالإمكان زيادته، والشر لا بد له أن ينقص، وهذا يتم بالحراك الاجتماعي. منح هذا التفكير مزدك الطاقة لحشد الاتباع لتحقيق ما يطمح إليه من عدالة إجتماعية ومساواة، ساعياً لتقليل سلطة الكهانة التي لها نفوذ على الطقوس الدينية والتعبد، وهي بفهم مزدك لا تحتاج إلى تسلط كهنوتي.

المزدكية عُرفت في دعوتها أنها تميل إلى توزيع وإشاعة الثروة بين الناس، بما في ذلك تقسيم الممتلكات الكبيرة والعامة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الناس، حيث شكلت هذه الأفعال اختلال في الموازين والأعراف السائدة آنذاك. أما تعاليم مزدك بالنسبة للنساء فتنص بالإباحية والمشاركة في ملكية النساء لإقربائهن الذكور. وكان سائداً آنذاك أن الأثرياء يحتفظون بحريم كُثر، وهو احتكار غير عادل في نظر مزدك
(مصطلح حريم اشتهر أستخدامه خلال السلطنة العثمانية ويعني مجموع الزوجات والجواري اللآتي يملكهن السلطان).

الفردوسي وهو الشاعر الفارسي الذي عاش فترة(935-1020)م يذكر في كتابه الشاهنامة (ملحمة الملوك)، أن كسرى الثاني برويز والذي أتى زمنه بعد مزدك، يقول الفردوسي عن برويز؛
“أنه كان يحتفظ باثنتي عشر ألف محظية”. ولئن كان هذا الرقم مبالغا فيه إلا أنه لا بد أن العدد كثير الذي سوغ لمزدك حسب معتقدة الدعوة إلى إلغاء مفهوم الحريم، وتسريح المحظيات ليشترك فيها الآخرون.

قبل ثلاث سنوات من موت قباذ، وهو الحاكم السابع عشر في سلالة الملوك الساسانيين أي في عام 528م، استسلم قباذ حينها أمام ضغط أعداء مزدك، فسمح لأبنه الثالث ووريثه كسرى الأول أن يمكر بمزدك فيدعوه إلى مأدبة على شرفه، وانتهت المأدبة بذبح مزدك وأتباعه الخُّلصْ.

بعد هذه الحادثة تم تجريم المزدكية وذُبَّح المزادكة في طول بلاد فارس وعرضها، وجلس قباذ الذي سمح بهذا التطور في الأحداث بالتفرج على مذبحة المزادكة التي يبدو أنها كانت أكثر فضاعة ودمارا كمذبحة دينية ذاك الزمن. بل فاقت مذبحة بإرثولوميو في باريس والتي أتت بعد اكثر من الف سنة حدثت بإرثولوميو عام 1572م. وذُبح فيها 30 الف بروتستانتي على يد السلطات الكاثوليكية بأوامر من الملك الفرنسي شارل التاسع ووالدته خوفا من سطوة وإنتشار البروتستانتية.

لم تعش المزدكية لوقت طويل بعد ذلك، وفنت داخل البوذية في آسيا الوسطى بيد أن بعض افكارها قد أثرت لاحقاً في الحركات الاجتماعية في العصر الإسلامي، ومنها ثورة الزنجي التي انطلقت من جنوب العراق البصرة عام 869م، ولمدة أربعة عشر سنة إِبَّان الدولة العباسية وكان قائدها فارسي. وجيش الزنج معظمه من الأفارقة والأحباش، وفلول من القبائل العربية. مواجهة الزنج استمرت قرابة أربعة عشر سنة للقضاء عليها.

أما الديانة المانوية برزت أثناء الحكم الساساني وفي عهد الملك شابور الأول، وكان ماني بن فاتك فارسي آري العِرق ولد عام 216م، وهو من سلالة بارثية نبيلة. ولادته كانت قبل أن يؤسس اردشير بابكان الملكية الساسانية بثماني سنوات. ترعرع ماني في بابل بمحيط يهودي مسيحي وتعلم هناك اللغة الساميّة ألاكدية والآرامية التي يتحدثها سكان بابل.
أُعتبر ماني حكيماً فارسيا، عمل على تاسيس دين عبارة عن توليفة من الزرادشتية واليهودية والمسيحية والبوذية، حيث استعار من تلك الاديان الأفكار الغنوصية، والغنوصية معناها عرفان رباني دون واسطة تهدف لإدراك كُنْه الأسرار الإلهية، وتعتقد كذلك بإن الروح خيره يواجهها جسد شرير، فالروح تملك المعرفة بينما الجسد مادة فاسدة. تلك الافكار أثرت في ماني بما فيها ما أخذه وتعلمه من معتقدات هندوسية وبابلية قديمة التي تُعدد الآلهة.

كل تلك الاديان دفعت ماني أن يعمل انتقائية منها لتشكل عقيدته ودعوته. والجدير بالذكر أن ماني أبقى على جميع المبادئ الرئيسية للزرادشتية؛ وهي الإيمان بالرب والشيطان والجنة والنار والحساب الفردي بعد الموت. فلسفة ماني تقوم بان النور مرتبط بالروح والظلام بالمادة، والخلط بينهما يقود إلى سيطرة الشر على الخير. أوصى ماني بحياة التنسّك والعفة والطعام النباتي.

الملك شابور الأول رحب بالمانية بادئ الأمر، إلا أن الكهنة الزرادشتية استنكروه واعتبروه مهرطقا ومهددا لسلطتهم. وهذا أدى بشابور أن ينصحه بالابتعاد، فطبّق ماني ذلك فرحل بعيدا، فقضى سنوات عديدة في آسيا الوسطى وغرب الصين حيث تبعه كثيرون، وحين مات شابور عام 272م عاد إلى إيران، ورحب به الشاه الجديد هرمز الأول، لكنه سرعان ما وافاه الأجل وحل محله بهرام الأول، الذي يكن كرهاً شديداً لماني وعقيدته لدرجة انه أمر بموته ميتة مروّعة. ومنذ ذلك الوقت عانى المانويون بعد توزعهم إلى إفريقيا واوربا أيضا من اضطهاد وقمع الزرادشتية والمسيحيين، لأنهم يعتبرون عندهم تهديدا للسلطة الاستبدادية للدولة والكهانة، حيث كانت المانوية جزءاً من الدولة. بعد ذلك ضعفت المانوية واضمحلت وبقيت أثاراها كمعتقد تنسّكي روحي، بل وتشاؤمي مركزا على العالم الآخر بعدما كان إبِّان عهد الساسانيين دين الدولة الرسمي.

المزدكية والزرادشتية والمانوية ديانات ذات أثر تراثي وعقائدي في المخيلة الفارسية، بعضه أمتد وأوجد ثغور يبث صداها، لمن لم يستقيم بالهداية على نهج النبوة، ويبتدع ضلالات في الإسلام. وبهذا ظلت بلاد الفُرْس حاضنه لكثير من الفرق الباطنية التي شقت طريقها بين المسلمين وبذرت طلاسمها وطقوسها وامتدادها.

الفرق الباطنية مسمى مأخوذ من مفهوم “الباطن”؛ أي لا يأخدو تفاسير ظاهر النصوص بل تأويل باطنها. الشهرستاني ذكر في كتابه الملل والنحل سبب تسميتهم بهذا اللقب: “إنه لزمهم بهذا اللقب لحكمهم بأن لكل شيء ظاهرا وباطنا، ولكل تنزيل تأويلا”. هذا التوجه فتح الباب على مصراعيه للعديد من الهرطقات في تفسير النصوص، والغلو والتقديس لمن يَتبعون حتى بعضهم يعتقد أنهم مستورين عن الناس. وهذا جلب آثار سلبية للفرق الباطنية في التأريخ السياسي، لما فيه من شرخ في وحدة العالم الإسلامي وتجزئة أرجائه. هنالك عديد من التآليف رصدت أفكار ومعتقدات الباطنية، وما فعلوا أو حدث معهم عبر الزمان، وهذه بعضها؛ الملل والنحل لأبي الفتح الشهرستاني، كتاب لأبي حامد الغزالي “فضائح الباطنية”، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد محمد جلي، تاريخ الحركات الباطنية محمد أحمد، الخطيب، وكتاب الفَرق بين الفِرق لابي عبدالقاهر البغدادي التميمي.

الباطنية قد طالت كثير منها أيادي دخلاء نفخت فيها كيد تجذر بإحكام، وأغراض قد لا تُدرك من أتباع وعوام، فيه دهاء تراتيب معرفية لها خصوص وطبقية، إلا أنها لها إمتداد زمني، وتعلق عقائدي، وحضور معنوي وشعائري. وهذا سياق موجود في البشر لا تخلو منه بقاع الأرض، وذاك تعدد أفهام، وتنوع وإختلاف، وتعارض وتباعد، وتقارب في مشارب. تلك حكمة تبقى في الخليقه، واعتراك وتباين سرمدي، والمأمول أنها لا تُولّد تحريض ولا تنكر ولاءات أوطان ولحمة شعوب، وتبتعد عن اصطفافات فيها غلو وكراهية. تنجو باستشراف مستقبل، وعمارة أرض، وتعايش سلام مع الآخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *