هل تزيح الصين أميركا (الغرب)!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
قبل أن يقرر الغرب في الثلث الأخير من القرن الماضي جَرّ الصين إلى دخول عالمه، كان الغموض يلف الصين وأوضعها، فلم تكن معروفة للكثير من الناس، فمعرفتهم بهذه الدولة التي تزيد مساحتها بأكثر من 7 مليون كم من مساحة المملكة العربية السعودية، ويزيد عدد سكانها على المليار والأربعة ألف نسمة، أقول معرفتهم عنها جاءت من الموروثين العربي والإسلامي، الذي خطه الرحالة العرب والمسلمين عنها وعن مجتمعاتها أو عن طريق وسائل إعلامية مختلفة خصوصًا الغربية في عصرنا الحالي. ومن المعلوم أن جَرّ الغرب بواسطة أمريكا الصين إلى أحضانه كان لأسباب اقتصادية بحتة، فحجمها الجغرافي الكبير وعدد سكانها الهائل سوق ضخم لمنتجاته وصناعاته. وأمريكا في اتجاهها هذا نَفَذَت ما نفذته الصين قبل ألفين عام عندما أنشئت طريق “الحرير” سعيًا منها إلى اقتحام الأسواق في أوروبا بمنتجاتها ومصنوعاتها، والملفت أن “طريق الحرير” خَدَمَ الغرب أكثر من الصين ذاتها، فتَمَكَنَت أوروبا من نشر أفكارها وأساليبها وعدد من عاداتها ومفاهيمها في الشرق الأقصى.
أقول إن الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في فترة حكم الجمهوري “نيكسون” (1968- 1974م) ظنت أنها ستنال نصيب الأسد من هذا الانفتاح الصيني، إلا أن العقود اللاحقة اثبتت أن الصين ومجتمعها هو أكثر المستفيدين، فقد هَزّ بساط الهيمنة الغربية الاقتصادية، فعَمِلَ قادتها على وضعها في الخريطة كقوة عظمى على الأقل اقتصاديًا حتى الآن.ولذلك تنعم الصين باقتصاد لافت جعلها تحتل ثاني أقوى اقتصاد في العالم ويظن البعض أنها تسير بتأن لاحتلال المركز الأول في غضون عقدين أو ثلاثة أن لم يكن أقل لتزيح “أمريكا” عن مكانتها التي احتلتها خلال عقود.
ولا أكشف سرًا عندما أقول أن من أمنياتي أن تتاح ليّ فرصة زيارة: “الصين، وروسيا، والفاتيكان، وأمريكا”، لأسباب عدة، وبالنسبة للأولى حَقَقَ ليّ إقامة الهيئة الملكية للعلا معرض: “العلا: واحة العجائب في الجزيرة العربية” هذه الأمنية، فأقمتُ في عاصمة هذه الدولة العظيمة التي أثلجت صدري بتصريح مُتَحَدِثها في محكمة العدل قبل أيام مبينًا بشكل لا لبس فيه حق أهلنا في فلسطين “استخدام القوة في سبيل تحرير أرضهم من المحتل”. وهو تصريح قوي جدًا وعادل. وتحتضن بكين أماكن تاريخية يقف الإنسان أمامها مذهولًا، وأهمها “المدينة المحرمة”، و “سور الصين العظيم”، الأولى لأن الإمبراطور ونظامه حرم الدخول إليها إلا بعد أذنه، والثاني أنشأته الإمبراطورية لحمياتها من الغزوات. وما أن وطئت قدماي أرضها إلا ووجدتُ نفسي متلهفًا راغبًا في التعرف على هذا الشعب الذي يشق طريقه بثبات ليكون قوة اقتصادية ذات شأن، وزيارة مواقعها التاريخية. وأردت من هذه المشاركة المتواضعة طرح مقارنة بين الصين وفكرها، والغرب ومنهجه لا لشيء إلا لأحدد شخصيًا المدى الذي ستصل إليه الصين في هذا العالم. وهل ستكون فقط منافسًا اقتصاديًا؟ أم أنها تعمل بجدية على قيادة العالم؟ وتَحَلُ أفكارها وأساليبها محل تلك الغربية الليبرالية. ومن المعلوم –عندي على الأقل- أن الهيمنة على العالم وقيادته، والجلوس على قمته يحتاج إلى أربعة عوامل: الأول: عدالة قانونية مقترنة بمساواة مجتمعية. الثاني: مجتمع مبدع ينظر إلى المستقبل ويستفيد من الماضي، يقود العالم حضاريًا، ويملك أبعاد إنسانية. الثالث: نظام سياسي مرن ومتغير غير محتكر للسلطات الثلاث. الرابع: منهج فكري يتبناه ويكون مثابة القاعدة الأساسية لبناء المجتمع، أكان هذا الفكر ديني أو اجتماعي أو حضاري أو غيرها.فأي مجتمع لديه هذه القواعد لا شك –عندي- سيكون هو المجتمع الرائد على هذه الأرض حتى يتخلى –هذا المجتمع- عن فكره الذي كان أساس نشوء دولته.
وبعد زيارة استمرت أيام قليلة خرجتُ بهذه الانطباعات:
1- الصين -كما يظهر للجميع- تسير اقتصاديًا في طريق مُعَبد لتصبح دولة اقتصادية كبرى، فميزانها التجاري يعد الأول عالميًا، ففيما عدا السعودية (بسبب شراء النفط) وخمس دول أخرى، فإن الميزان التجاري دائمًا لمصلحتها. ومع هذه الميزة المهمة إلا أن العيب الكبير الذي يحول دون تحقيقها هيمنة اقتصادية واضحة أمران: أولهما: أن الصناعات الصينية هي صناعات مُقَلَدة. فما زال المجتمع الصيني في مرحلة التقليد –تمامًا مثل اليابان أو كوريا مع الاختلاف في بدياتهما- والوصول إلى القمة يحتاج إلى خطوات تطويرية أخرى لا يظهر في الأفق أن النظام السياسي الحالي في الصين–مع الأسف- سيتبناها. ثانيهما: نظام تعليمي مرن يساعد على التطور والإبداع؛ فالإبداع بمختلف جوانبه (حضاري، اقتصادي، زراعي، صناعي، تعليمي …إلخ) يحتاج إلى انفتاح حقيقي على العالم، وليس فقط التواصل، بل دخول منطقة وسطية تجمع بين التفاهم والعلاقة الحقيقية والتنافس العدائي الذي يقود إلى التغيير والتطور. فالنظام التعليمي في الصين لم يصل -حتى الآن- إلى تلك التي تتمتع بها الدول المهيمنة على العالم. والإبداع الصناعي والحضاري، بل والثقافي يحتاج إلى بيئة تساعد عليه، وهو –كما أتصور- غير متوافر فيها بسبب النظام السياسي الصيني الحالي. فبدون تعليم حقيقي مرن ينظر إلى المستقبل معتمدًا على تجارب الماضي لن يتطور الحال. ومن هذه المعايير الهامة “استقطاب المبدعين” (بغض النظر عن أعراقهم أو دياناتهم) وحاليًا لا تستقطب الصين -كما فهمت- أمثال هؤلاء، فما زال المجتمع أو عليّ القول قادته يحمل الفكر ذاته الذي تبناه الحزب في بداياته، وهو ما اسميه “البعد المحلي الوطني”، ومشكلة هذا المنهج أنه يخلق شخصية أنانية “لا تدري أنها لا تدري”، وتتصرف كما أنها تعلم وتعرف كل شيء. والبعد الوطني أو القومي جائز، ومقبول، بل مطلوب في مناح عدة فيما عدا: “التعليم والإبداع” فلا جنسية لهما. وما من دولة (أو مجتمع) انتهجت هذا النهج المنغلق إلا أصبحت في: “مكانك راوح”، فبدلًا من الارتقاء والتغيير إلى الأفضل نجدها تأخذ مفهوم: “إلى الخلف سر”؛ وهو ما وجدته في التمصير في الخمسينات والستينات؛ وتعيشه دول أخرى في المنطقة التي ترى في بث روح الوطنية المزيف من عوامل استمرار الحال الخاطئ. لذلك لا يمكن لنظام تعليمي منغلق على المحلية أن يقدم مخرجات ناجحة وحقيقية تخدم حاضر المجتمع ومستقبله، نعم يمكن، بل يفترض تمصير وسعودة وتكويت، وبحرنة وجزئرة… إلخ “الجيش والشرطة والقضاء …. إلخ” فيما عدا بعض النواحي، وأهمها: التعليم والإبداع، إذ لا يمكن أن ينجح أي مجتمع يتبنا هكذا تفكير ومنهج مغلف بالمحلية والوطنية الزائفة.
2- الهوية: قبل وصولي إلى بكين كان في ذهني نمط معين لها؛ ظننتها مدينة متحفظة ومحتفظة بإرثها الثقافي والحضاري، توقعتُ أنها–مع التطور الصناعي المذهل- مغلفة بهويتها الثقافية التي عرفناها في كُتب الرحالة العرب والمسلمين والأفلام السينمائية الغربية؛ لكنني فوجئت ألا أثر واضح –على الأقل في الأماكن التي زرتها- للثقافة والهوية الصينية. فالعمارة الغربية (الفرنسية، والإنجليزية واليونانية والرومانية وغيرها) واضحة في العمارة البكينية. حتى أن المحلات الحديثة تشعركَ أنكَ في باريس أو لندن. لذلك التخلي التدريجي الواضح للثقافة والهوية الصينية لا يدفعني إلى الشعور بأن الصين تمثل تهديدًا حقيقيًا للغرب. نعم هناك تمسك باللغة الصينية، وهو أمر جميل، لكن يجب أن يُقرن بمعظم مناح الحياة وليس فقط اللغة.
3- زرتُ موقعين كان من أحلامي أن أزورهما، وهما: “المدينة المحرمة” و”سور الصين العظيم”. الأول: مدينة بمساحة “720 ألف متر مربع”، تضم عدد من القصور والساحات والحدائق، تصل إلى “800” مبنى، و”8700″ غرفة، ومع السمعة التي نالتها هذه المدينة إذ يزورها أكثر من “15” مليون سائح “90%” منهم من المجتمع الصيني في العام إلا أن ما أذهلني، مع السمعة الكبيرة والهائلة للمدينة ذات العمارة التقليدية الصينية الجميل، أن لا عمارتها ولا زخارفها ولا حدائقها (فيما عدا محتوياتها التي تصل إلى حوالي مليون قطعة من التحف الفنية النادرة، لم نًمَكَن من زيارتها) تصل إلى القصور الملكية والإمبراطورية في أوروبا أو حتى عالمنا العربي والإسلامي، والملفت أن هذه المدينة كانت مقرًا لحكم الصين مدة تزيد على “400” عام. الثاني سور هائل يمتد حسب ما قيل لنا أكثر من 21 ألف كم، ويعكس هذا السور قوة الحضارة الصينية وقتها، ويقدم صورة طيبة عن المجتمع وقوته الحضارية.
4- تمتاز المدينة، بل والصين كلها –كما أخبرني قاطنيها من العرب- بالأمن والأمان وانخفاض واضح في الجرائم خصوصًا السرقات، عكس ما نعرفه عن المدن الغربية، التي تنتشر فيها السرقات بوضوح.وفي ظني أن الانتشار الأمني المتمثل في الظهور العسكري واستخدام التقنية خصوصًا الكاميرات المفرط دور في هذه الظاهرة التي تتمناها كثير من المجتمعات.لكنني أجدُ أن الهاجس الأمني والتدقيق اللافت والممل أحيانًا مبالغ فيه إلى حد كبير، وهو في ظني من عوامل قلة أعداد السياح الأجانب، فالتدقيق في الأوراق يأخذ وقتًا غير طبيعي في الجوازات وكذلك الأماكن السياحية. ومع عرفاني كعربي في احترام أجهزة الجوازات الصينية للأجانب واستخدام الذكاء الصناعي في الترجمة الفورية لعدد من اللغات ومنها العربية (عبر الجهاز اللوحي الآيباد) إلا أن التدقيق الطويل في كل صفحات الجواز أمر غير طبيعي. وترجمة النماذج إلى عدة لغات أظنها غير معروفة –حسب علمي- إلا في الصين، وليت أجهزتنا الأمنية تستفيد من هذه التقنية التي تسهل الكثير مع أخوتنا في شرق أسيا في: باكستان، والهند، وبنغلادش إندونيسيا… إلخ، والمقلق بالنسبة ليّ الهيمنة والسيطرة القوية من لدن السلطات –بسبب هاجس الأمن- في منع استخدام جميع شبكات التواصل الاجتماعي الدولية (الفيسبوك، الواتساب، تويتر، يوتيوب،… إلخ) وحتى حظر تطبيق خرائط غوغل، واستبدلتها بشبكات محلية، قد يكون هذا المنع حق من حقوق الدولة، لكنه لا يليق بدولة تأمل أن تحتل مكانة كبيرة في المجتمع الدولي. ولإرضاء الجمهور الصيني أنشأت السلطات الصينية موقعين مشابهين أحدهما “محلي” والآخر “دولي”، بمعنى أن السلطات “تفلتر” الموقع الصيني المحلي، وتختار ما يفترض أن يراه وما لا يراه، وما يقرأه وما لا يجب عليه قراءته الشخص الصيني. وقد حاولتُ –شخصيًا- استخدام الموقع الصيني بالأسلوب ذاته الذي استخدم فيه “غوغل الأميركي”، ومع الأسف لم أجد أن في الموقع الصيني ضالتي، فقد قَدَمَ معلومات ضعيفة، بل لا علاقة لها بموضوعي، وهذا يعكس ضعف إمكانيات الموقع (غوغل) الصيني. وعندما ناقشتُ هذا الأمر مع البعض أبان أن الصينين لديهم طرق عدة للدخول على “غوغل الأميركي”، و “وسائل التواصل الأخرى”.ولعلي أضرب مثالًا بسيطًا على المبالغة الأمنية، فنظرًا لإقامة الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره السنوي –هذا الأسبوع- لاحظتُ إجراءات أمنية مبالغ فيها، إذ تغلق جميع الطرق والمباني المحيطة بمقر الاجتماع ولمسافات لافتة، وفي ظني أن هكذا هاجس أمني يعكس عدم ثقة الدولة وحزبها بردود فعل السكان، ويدل –وهو الأهم عندي- أن حلم احتلال الصين محل الغرب الليبرالي أمر لا يمكن تحقيقه في المستقبل المنظور، فالثقة في النفس، وفي الشعب أحد ركائز الهيمنة والقوة.
5- أمران لافتان في المجتمع الصيني أولهما: انخفاض واضح في الأسعار مقارنة ليس فقط بالدول الغربية المنافسة، بل بدول عدة في العالم الثالث. ثانيهما: جدية العامل الصيني وحرصه على تنفيذ أوامر رئيسه، إضافة إلى تحلي غالبيهم بالأدب وحُسن الخلق. وهذان العاملان كانا الأساس في القوة الاقتصادية التي ينقصها نظام سياسي غير محتكر وإبداع حقيقي يبعدهم عن الاكتفاء بالتقليد.والسؤال المطروح: هل ستسحب الصين البساط من الغرب وأمريكا تحديدًا؟ الإجابة على هذا السؤال أو لنقل الأمنية التي يتمناها البعض خصوصًا من بعض أبناء جلدتنا العرب، صعبة جدًا؛ فمهما كان سبب التمني في ظهور قوة أخرى تسحب البساط من الغرب الناجح اقتصاديًا وحضاريًا إلا في تعامله الظالم وتحيزه الهمجي مع العدو الصهيوني في قضيتنا “فلسطين”. وهذا الموقف الظالم وغير المفهوم دفع ويدفع الكثير منا إلى -لن أقول كراهية الغرب- بل عدم توافقهم معه. والهيمنة والقوة وقيادة الكون أمور لا تأتي بالتمني والأحلام، بل بالعمل الحقيقي على إعمار الأرض، فمستوى النجاح يتناسب مع مستوى الجهد والعمل وليس مع التمني والأحلام حيلتا “الكسول”. ويؤلمني أن من أبناء جلدتني يعيش في هكذا أحلام وأماني، بل يسعى بعضنا الترويج إلى ضعف الغرب وبروز الصين والذي لا أفهمه كيف تتمنى أمة سقوط أمة لتحل محلها أمة غيرها في السيطرة على العالم؟ لماذا لا تعمل هي على إعادة الماضي الجميل؟ وفي ظني –مع قصر مدة إقامتي في بكين- أن الأمر بعيد المنال ومخيبًا للآمال مع أنه قد لا يعجب الذي يعيش على الأحلام والأماني، فبعض السلوكيات التي وجدتها في بكين (نجدها في بلدان العالم الثالث ومنها العربية)، مثل: الهاجس الأمني، فتشدد الحكومة مع شعبها يعكس عندي عدم ثقة بينهما بكثرة المحرمات والممنوعات في الجانبين السياسي والاجتماعي … إلخ والثقة بين الطرفين “القيادة، والشعب” أساس في بناء دولة عظيمة، فالحرية والتواصل مع الأخرين تدفع الإنسان إلى السباحة في فضاء الإبداع ومن ثم السيطرة والهيمنة السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية والأخيرة فاجأتني بها بكين فقد صُبغت هذه المدينة بكل ما هو غربي، فالتخطيط وأسلوب البناء، بل وملابس الصينين وأسلوب حياتهم لا نقول يميل إلى الغرب، بل تبناه، ومن السلوكيات البسيطة ولكنها مهمة جدًا لا نجدها في المجتمعات التي تنشد العلا، ظاهرة عدم التقيد بأنظمة المرور، والمخالفات المتعمدة في هذا الجانب (وأن كانت بصدق أقل من بلداننا)، والأسواق الشعبية والغش فيها، فالسلعة في أول سؤال لك يصل ثمنها إلى “800” يوان، وبعد التهديد بعدم الشراء يصل سعرها إلى “150 يوان” يعكس غشًا في الصناعة وغشًا مع المستهلك.وهكذا -عندي وقد أكون مخطئًا- الصين تمامًا مثل معظم (95%) رجال الأعمال عندنا من الخليج إلى المحيط “وكلاء”، فثرواتهم لم تأت من إبداعاتهم وبنات أفكارهم، بل من بيعهم منتجات الغرب والشرق فهم فقط وسيط لا أكثر ولا أقل؛ فأغنياء العرب هم وكلاء السيارات والأجهزة الكهربائية ووكلاء الفنادق والماركات الغربية أولًا والشرقية ثانيًا. بمعنى لو قررت مصانع الغرب والشرق وقف التصدير أو لنقل تغيير الوكيل لفقد هؤلاء ثرواتهم. فهل أبالغ لو قلت إن الصين تقوم بدور مشابه، فامتلاك السيولة بحد ذاته ليس دليل على النجاح، بل هو نجاح مؤقت مغشوش مغلف بالاحتكار واستغلال حاجات الناس. نعم الشعب الصيني شعب عظيم حقيقة لا يمكن انكارها وشعب لا شك يأت منه، ويحتاج للخروج من مستنقع الاحتكار وكسب المال بأساليب تقليدية إلى نظام سياسي جديد، فالحزب الشيوعي الذي يقوده سياسيون مهرة عصرتهم الحياة وغلفتهم بخبرة وحنكة واضحتين، لكن قيدتهم التقليدية والرغبة البشرية في الحفاظ على المكتسبات. فقد كانت ضربتهم ضربة معلم عندما اختاروا قبل عقود النظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث فظهر الآلاف من الأثرياء الذين يذكرونني بتجار العرب أغلبهم من الخليج قبل عقود: شراء شقق وبواخر وجزر ومزارع… إلخ، يبلغ بالمناسبة عدد أعضاء الحزب اليوم أكثر من 96 مليون عضو من مختلف أقاليم الصين العظيم بأرضه وشعبه، واختلف الحزب في وقتنا الحاضر عن بداياته الدموية والوحشية وأحادية القرار، فأصبح ينظر بواقعية عما كان عليه، فتبنى قرارات مؤلمة تخالف مبادئه تحديدًا في الجانب الاقتصادي، رغبة في البقاء. وهو ذكاء سياسي واضح. والمعلوم أن التعددية السياسية وعدم احتكارها تمنح المجتمع فرصًا أفضل وأكبر لأي مجتمع التطور والتقدم. ومن الأمور اللافتة والجيدة أن قيادات الحزب والمسيطرون عليه من المدنيين، بمعنى نجح الحزب في تحييد الجيش وقادته وجعلهم أدوات في تنفيذ مشروعه الحزبي، ولو كانت الصين تقاد من الجيش لظلت في تخلفها فالمدني أكثر براغماتية في تحقيق خططه وطموحاته. أما العسكري فيصر على تنفيذ أفكاره غير الفاعلة.قد يقول قائل أيهما أكثر نفعًا لعالمنا العربي الأنظمة الشمولية أم الأنظمة المتجددة؟ في الواقع النظام الأول أكثر فائدة ومنفعة للطبقات الحاكمة، فنجاح “بشار الأسد” في الاحتفاظ بعرشه حتى الآن يعود إلى قناعة “بوتين” الذي نجح بدعمه في تثبت نظام الأسد على أشلاء الملايين من البشر، وتخاذل الدول والمجتمعات التي شجعت في البداية قيام الثورة الشعبية، وهذه طبيعة النظام الغربي “يبيع حلفائه بجرة قلم” عندما تصل الأمور إلى المساس برفاهيته واستقراره.أخيرًا كانت تجربة رائعة ليّ شاهدت فيها عاصمة تاريخية خلعت هويتها وشوهتها في تبعيتها للسائد اليوم، واحتكيتُ مباشرة بشعب كان غامضًا عظيمًا ظننته يعيش في تراث عظيم خلفه الآباء والأجداد فوجدته مثل شعوب العالم الثالث يبحث عن الدولار بأي وسيلة كانت والحق أنه أفضل منا؛ وأنا على ثقة كبيرة أن الصين ستحتل يومًا المكانة اللائقة بها شرط التغيير في نظامها السياسي، لكنني يجب أن أرفع القبعة لهذا النظام الشمولي عندما “شرعن المقاومة وحمل السلاح ضد عدو الإنسانية في فلسطين، دولة إسرائيل”. يكفيني شخصيًا هذا التصريح مع أنه تصريح لا تستطيع الصين نفسها تفعيله لأنها بكل بساطة أضعف من فرضه، ومع هذا أرفع يداي تحية إجلال وعرفان من الأعماق لساستها في حزبها الشيوعي الذي لم يمش مشية الغراب ولا الحمامة على هذا الموقف العادل. والعقود القادمة كفيلة في زحزحة أميركا عن الواجهة، فلا دائم إلا وجهه، فعوامل تراجعها كثيرة ومتعددة، ولم يخدمها إلا تخاذل المجتمعات الأخرى وعدم جراءتها.
بوركت دكتور