عبدالله بشارة : الشيخ بن باز دعاني لمكتبه بسبب عدم آدائي صلاة الظهر في مبنى الأمانة
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
كتب الدكتور عبدالله بشارة أمين مجلس التعاون الخليجي السابق مقالة صحفية تحدث فيها عن التغيير الحادث في السعودية وما لمسه خلال زيارته الأخيرة للعاصمة الرياض وفي سياق حديثه عن تجربته الشخصية أثناء سكنه في الرياض لمدة 13 سنة تطرق لموقف لطيف حدث بينه وبين الشيخ عبدالعزيز بن باز (يرحمه الله)، مقالة الدكتور بشارة منشورة في صحيفة القبس الكويتية:
” قضيت يومين في الرياض مشاركاً في المنتدى الخليجي، الذي تمت ترتيبات عقده في المملكة لأول مرة، في مؤشر على أن الأبواب الخليجية ستفتح للمنتدى الذي كان يتنقل خليجياً، ثم تعرّض للاختناق الإقليمي، وظل لصيقاً بالكويت انتظاراً للترحيب الجماعي، الذي قد تكون محطة الرياض مفتاح الأمل.
كان ملف الندوة مناقشة العلاقة بين التنمية والثقافة، وتثمين حجم الدور الثقافي في توفير النجاح للمشروع التنموي، كانت أوراق البحث تتحدث عن هذا الترابط وقوة ديمومته وفعاليته في دفع التنمية نحو النجاح، خاصة أن عدداً لا بأس به من الأعضاء المشاركين أصحاب معرفة في شؤون الثقافة ودورها في التنمية.
دعاني صديقي السعودي على عشاء في مطعم مشهور اسمه البيت الصغير Petite Mason، متواجد في عواصم عدة، ومنها لندن، حيث السياح من السعودية يتواجدون فيه بكثرة، شهدت في ذلك المساء ولأول مرة سيدات سعوديات لوحدهن يتناولن العشاء بمفردهن، لا رجال ولا حماية خاصة، وكان العدد من النساء في المطعم أكثر من عدد الرجال، مردداً للأصدقاء المشاركين في العشاء بأنني قضيت اثني عشر عاماً في الرياض ولم يسبق رؤية هذا المنظر، الذي يضم هذا العدد من النساء، ولابد أن يتساءل زوار الرياض عن الأسرار، التي أدت إلى هذه التبدلات الضخمة.
ما حدث في المملكة خلال هذه السنوات ثورة بيضاء، قادتها الشرعية السعودية التاريخية، التي أدركت حتمية التغيير وضرورة مواكبة الكوكب العالمي، الذي طوى صفحات الماضي، وانتقل إلى فضاء يتحكم فيه العقل الرشيد، الذي يكيف المجتمعات نحو المقبول، ويبعد عنه كل ما يوحي بالاستخفاف بالعقل، وتطويع المنطق لإنقاذ المجتمع من تأثير محتوى الخرافات، التي تتواجد بكثرة في المجتمعات المغلقة.
انفتحت الأبواب في المملكة نتيجة للقراءة المستنيرة لرسالة الإسلام ورصد مبادئه العالمية، والانسجام مع تعاليمه نحو المفيد وتجنب المؤذي، ورفض الأوهام، والتزاوج مع العقلانية، والواضح أن هذا المسار لا يتحقق دون إزالة الحذر المتواصل في المجتمع السعودي، الذي تراكم منذ قرون، مع خوفه المتأصل من تأثيرات الانفتاح التي قد تحمل ما يسبب الضرر لمواصفات المجتمع السعودي المحافظ، وقد يدفعه إلى مواقع تتعارض مع مفاهيم الاسلام.
أظهرت القيادة التاريخية في المملكة عزماً قوياً على النهوض التنموي والثقافي واللحاق بموكب التبدلات العالمية في العلم والتكنولوجيا والمعرفة، ومن هذا الإدراك تولدت ديناميكية التغيير، وتحريك المجتمع السعودي في عملية زحف نحو الانفتاح، متدرجة في توازنها، هدفها تجاوز المخاوف عبر إزالة المصدات وتأكيد العبور على السدود المتوارثة، وإطلاق عملية زحف نحو الانفتاح وفي كل ممرات الحياة، اجتماعياً وتعليمياً وسلوكاً وثقافة.
وما يثير الإعجاب أن كل هذه التبدلات جرت دون عواصف ودون ارتباك وبلا معارضة، وكنت أسأل بعض الأصدقاء السعوديين عن صمت القوى، التي كانت تمارس سلطة فريدة في المجتمع السعودي، خاصة في إصرارها على استمرار غلق الأبواب، والتعاطي مع الموروث وصد المفاجآت التي أفرزتها مواهب العلماء وأصحاب الفكر ورواد الابتكار، مع تأكيد الاقتناع بالنظام الاجتماعي المتوارث.
عاصرت هذا الطرح الذي كان سائداً ومطمئناً، حيث عشت في الرياض من 1981 ــ 1993، كانت النغمة السائدة في المجتمع السعودي كلها تؤكد فضيلة السكون والتهدئة، والبعد عن مشقة التغيير، مع استمرار غياب الحيوية الاجتماعية، تاركاً الفضاء لتسلط الجمود.
جاءت الخطة الثلاثينية، التي تبنتها المملكة مع تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز إدارة الحكم، يعاونه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي رسم نظاماً اقتصادياً واجتماعياً منطلقاته الانفتاح سلوكاً، والعقلانية حكماً، والازدهار هدفاً، وتنوع الاقتصاد استراتيجياً، وجماعية الجهود تجنيداً، والاحتكام للعقل قاضياً.
تابعت لقاءات سمو الأمير محمد بن سلمان شارحاً الخطة السعودية الشاملة، متعجباً من هذا الإبحار بالمملكة إلى الأبعاد التي لا أحد يتوقعها، راسماً مسار المستقبل التنموي بتزاوج بين الطاقة والتنمية التي يتولاها القطاع الخاص، فاتحاً أبواب المملكة للجميع من الشركات الأجنبية، التي تنقل المعرفة والتكنولوجيا والاستثمار، وتأتي إلى الرياض حاملة تنوع المعرفة والابتكار.
أبحرت المملكة نحو أهداف كانت من الأحلام، وكأن قدر المملكة أن يأتي ذلك الحسم من بطن نظام الحكم، حاملاً مشروعاً لا يسبب اضطرابات للمجتمع، وإنما يفتح منصات التنوير ويعطل الاعتماد على الأوهام، ويجند العقل أسلوباً في الحياة، ويدخل غريزة الاستفسار والتساؤل، مع الإصرار على ملاحقة التطور والاقتباس.
وما أثار إعجابي سلاسة التبدلات، وترحيب المجتمع وحماس الشباب نحو العلم والمعرفة، كل هذه المستجدات أخرجت المملكة من صلابة الجمود، وأزالت أطروحات تعتمد على الماضي وتفسيراته لا مكان لها في مجتمعات العلم والتحديث.
ما رأيته في المملكة لن يبقى مدة طويلة محصوراً في حدودها، وإنما سيدق أبواب الخليج كلها، داعياً المتردد من الخليجيين لأن يستمع إلى أطروحات هذا الزمن، وداعماً المتحمس بتواجد آليات العقل، وباسطاً الممرات التي تحمل المواطنين إلى المعرفة والعلم ومنطقية السلوك.
والحقيقة أن خطة التنمية السعودية التي شرحها الأمير محمد بن سلمان نقلت المملكة إلى عهد جديد، حيث بدل الأمير محمد بن سلمان أسلوب التعامل مع تجمع العلماء من أصحاب النفوذ الاجتماعي والمقام المتميز، وأزال الجسور الخاصة التي كانت تنقل هذا التجمع إلى الحضن الذي يصدر منه القرار المؤثر.
كانت هناك قرارات ملكية، وكانت أيضا هناك فتاوى دينية، ولم تكن الفتوى خالية من النفوذ، كان لها وقع تاريخي ونفوذ اجتماعي وقاعدة سلوكيات تحميها مجموعات شبابية تتجول في الأسواق، تحافظ على نظام السلوك المتوارث وتلتزم بتطبيقه.
كانت لرجال الدين سطوة اجتماعية ومعنوية، وكانت لي تجربة لطيفة مع المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن باز، زعيم هيئة كبار العلماء، اتصل مكتب الشيخ عبدالعزيز بالأمانة العامة لمجلس التعاون، ناقلاً رسالة بأن الشيخ يريد لقاء الأمين العام في مكتبه، واستغربت الاستدعاء من رئيس الهيئة، فلا علاقة بين الأمانة وبين الهيئة، ولا يوجد مكان للعلماء في نظام مجلس التعاون، وفوق ذلك، لم يسبق لي الاتصال المباشر أو غير المباشر مع مكتب الهيئة.
وذهبت وفق الموعد، وعندما دخلت عليه في مكتبه أعطاني رسالة وصلته من موظفي الأمانة العامة، يشتكون فيها من غياب الأمين عن صلاة الظهر، واستغربت هذا التساؤل، وشرحت له استمرار تنقلاتي وطبيعة العمل، وبعد مرور سنة أعاد الشيخ اتصالاته وذهبت إليه، وأطلعني على رسائل من سكان الربع الخالي، يشتكون من نوعية البرامج التي تبث من تلفزيون سلطنة عمان، فيها استفزازات وخروج على الآداب، طالباً نقل فحواها إلى السلطات العمانية، وذهبت بعد فترة هناك شارحاً الموضوع، ومتسائلاً عن نوعية البرامج، المهم أنني نقلت الرسالة ومعانيها.
أذكر تجربتي مع الشيخ عبدالعزيز بن باز، الذي مارس نفوذه لوقاية المجتمع من الإساءة إلى القيم الدينية العالية.
في نهاية هذا العرض أشير وبكل يقين إلى أن التبدلات السعودية الكثيفة والمتواصلة ستمس استراتيجيات جميع دول الخليج، قد يهضم البعض محتواها في وقت قريب، بينما لن يبقى أحد منها محصناً من فاعليتها وحصيلتها، ومجتمعنا في الكويت ربما أقرب في التجاوب من المجتمعات الخليجية الأخرى، وعلينا التحضير للتبدلات الكثيفة القادمة.”
عبدالله بشارة