الرأي , خربشة ومغزى
“أوبنهايم” .. مستشرق ألماني بارع
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
ماكس فرايهير فون أوبنهايم 1860-1946م، هو رحالة وعالم أثار وقانوني ودبلوماسي ألماني، وأحد المستشرقين اللامعين الذي كثرت مدوناته، والتي من أبرزها مؤلفه الضخم “البدو” في أربعة أجزاء . هذا السَفر حصيلة جهد طويل استغرق أربعين عاماً من العمل والملاحظات والتسجيلات الشخصية، التي قام بها في عين المكان، ساعده وشاركه عالمان ألمانيان قديران هما: البروفيسور إيريش برونيلش والبروفيسور فرنر كاسكل.
يُعدُّ مؤلف أوبنهايم من أَجَلِّ الدراسات وأكثرها عمقاً في فهم القبائل البدوية، ودراستها دراسة تاريخية اجتماعية واقتصادية شاملة وسياسية وانثروبولوجية، وهو يقدم معلومات شاملة وفريدة من نوعها عن تاريخ القبائل، وأصولها وأنسابها، وهجراتها، والترابط القائم بينها.
وثمة ناحية مهمة أخرى في تاريخيّة هذا الكتاب والبحوث التي تضمنها هي الفترة الزمنية “الحساسة” التي أنجز فيها المؤلف بحثه مستندا إلى مشاهدات ميدانية تخللّها فترة فاصلة وجوهرية في تاريخ البدو بشكل خاص والمنطقة العربية بشكل عام. وهي الفترة الزمنية التي بدأت قبل عملية توطين القبائل البدوية، وقبل أن ينتشر نفوذ وسلطة الدولة التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى.
يقول أوبنهايم في كتاب البدو ( ج 1 ص 66 ):” إن البدو هم أناس قليلو التعبير عن أنفسهم، وهم يخافون من المعطيات الرقمية “العددية”؛ لاعتقادهم أن أخبارهم يمكن أن تصير خطراً عليهم بسبب الضرائب وغيرها من الالتزامات، التي تفرضها الحكومات عليهم، وكنت أحتاج دوما إلى تحضيرات طويلة، وإلى كسب ثقتهم بصورة مطلقة قبل أن أتمكن من تلقي أخبار موثقة فعلاً منهم، وقد ساعدني على فتح قلوبهم لي معرفتي الدقيقة بأعرافهم، ومشاركتي القبلية في حياتهم الفردية، وعلامات البهجة التي كانت تبدو على وجهي عندما كنت استمع إلى قصص ومغامرات الغزو والصيد. إن الصبر الجميل والمعرفة الدقيقة باللغة العربية هما شرطان ضروريان لدراسة البدو”.
يجمع المختصون على أن ميزة الاستشراق الألماني تَكْمُنُ في كونه الأقل خضوعاً لغايات سياسية، ولم تبرز فيه الصفة العدائية في كتابات ودراسات مستشرقيهم. ويُذكر أن أول محاولة في ألمانيا لتدريس اللغة العربية كانت من قبل”كريستمان ” المتوفي عام 1613م.
وكذلك يُعتبر الرائد الأول الذي وضع أساس الدراسات العربية في الجامعات الأوربية، هو الألماني”رايسكة” المتوفي عام 1774م والذي سمى نفسه “شهيد الأدب العربي”، بعد أن أوقف حياته كلها على دراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية. وهذا الاهتمام بالمشرق وتراث العرب عند الألمان امتد إلى وقتنا الحاضر.
لا بد من الإشارة إلى أن أوبنهايم هو أول من اكتشف “تل حلف”، وهو موقع أثري يرجع إلى الألف السادس قبل الميلاد يقع في شمال شرق سوريا منطقة ينابيع نهر الخابور. وقد سُمح لأوبنهايم حينها بإرسال ثلثي مكتشفات تل حلف إلى برلين، والبقية أرسلت إلى حلب؛ إذ لم تزل تُعرض في متحفها.
في عام 1930م افتتح متحف تل حلف في برلين مدعوماً من قبل عائلة أوبنهايم وأصدقائه. وكانت آخر رحلة قام بها أوبنهايم إلى سوريا عام 1939م
وقد رُحَّل قسراً، وذلك بتدخل من السلطات الفرنسية.
وفي عام 1943م أثناء الحرب العالمية الثانية، تعرض بيتة ومكتبه الخاص ومقتنياتة من آثار تل حلف في المتحف، للضرب في برلين بواسطة القنابل؛ مما تسبب في أضرار كبيرة بالآثار وفقدان الكثير منها.
ونختم لأوبنهايم عبارة ذكرها في كتابه البدو ج 1 ص 81؛ حيث قال: “إن البدوي لا يتخلى ، إلا في الحالات القصوى ، عن بداوته”.