مؤامرة .. قصة قصيرة
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
لم أجد من يغسلني. أرى من حولي، وأسمعهم وهم يبتعدون عني. وضعوني فوق نعش، ثم أخذوني ووضعوني في الثلاجة. كنت مسجّى على نعش خشبي، بعد أن لفّوني بكفن، ومن ثم في كيس بلاستيكي.
أنا أكره الأماكن الضيقة والظلام الحالك. ذكرني هذا المكان بجهاز الرنين المغناطيسي الذي وضعت فيه في الحياة الأولى، وعندها أحسست بصداع دائم، وبأن أنفاسي تنقطع، ولا أستطيع التنفس. وكان مجرد التفكير في تلك اللحظة مرعباً، فما بالك أن تعيشها في هذا لجهاز، الذي كان أبي يطلق عليه “القبو”. إلا أن جهاز الرنين المغناطيسي كان يختلف عن الثلاجة بدرجات البرودة. هنا الجو أكثر برودة، أعني الثلاجة. ولكن ذاك الجهاز توجد فيه أصوات مزعجة تشبه صوت أدوات الحداد نافخ الكير وضرباته المتوالية على الحديد.
اعترف بأن لديّ مشكلة ورهاباً من الأماكن المغلقة. النعش يتكون من الخشب، ولا يوجد فراش تحتي، وأحس أن عظامي تتشظى من شدة البرد ومن قساوة السرير، إن صحت تسميته سريراً، إنه صلب صلد.
لا أعرف كم الساعة الآن، وكل من دخل كنت أسأله، ولكنه لا يجيبني. لماذا لا يجيبون الميت على أسألته؟ أتكلم وأصرخ، ولا أسمع أحداً يجيبني، أو ينتبه إلي وإلى ما أقوله!! هل ذبذبات صوتي أقل من ٢٠ هيرتزاً؟
دخل عليّ طبيب بملابس بلاستيكية. أسمعه يقول: “أخرجوا الجثة. نريد أن نأخذ مسحة لنتأكد من إصابته بكوفيد 19 أو عدم إصابته، لأنه يترتب على النتيجة إجراءات أخرى”. لم أستوعب هذا، ولم أمانع، أو الصحيح أني لن أستطيع أن أمانع.
استدعى الممرض عمالاً يعملون في المستشفى وتحديداً في الثلاجة، وطلب منهم فتح الثلاجة بعد أن أحضر لهم ورقة. فتحوا الباب. كنت أسمع صوت فتح قفل الباب. خُطى العمال تقترب مني، ولم أكن قادراً على الحراك أو النظر نحوهم. فتحوا باب الثلاجة. وشعرت أنني أريد أن آخذ شهيقاً طويلاً يعوض لي الأوكسيجين الذي كنت أشعر بعدم وجوده. ولكني لم أكن قادراً على التنفس. حتى الأضواء لم تزعجني. وضعني العمال على السرير وفي الوسط، بعد أن أشار الممرض إلى المكان الذي يجب أكون فيه لإجراء الفحوصات وأخذ العينات. كان العمال يعرفون عملهم جيداً، حتى ولو لم يرشدهم الممرض. لقد اعتدوا على هذا العمل. كان الممرض حذراً جداً، إلا أنني لا ألومه.
تقدم الدكتور بعد أن نزع الغطاء عني. شعرت بالحياء والخجل في بادئ الأمر، وحاولت أن أضع يديّ على عورتي، لكن قواي لم تستجب. حاولت أن أغمض عيني، مع أنهما مغمضتان تماماً منذ أن أغلقها المسعف سابقاً. طلب الدكتور من الممرض أن يناوله المسحة، وهي عبارة عن أنبوب بلاستيكي رفيع يخرج منه أنبوب آخر كان موجوداً فيه، ثم يدخله في أنفي، وأحس بأنني أريد أن أمسك يديه وأن أعطس، ولكني لم أستطع إلى ذلك سبيلاً، شأني شأن الموتى الآخرين.
حرك الدكتور الأنبوب داخل أنفي عدة مرات يمنة ويسرة، وأخرجه من أنفي، وكانت لي رغبة أن أفرك أنفي. ثم أعاد الأنبوب إلى مكانه وأغلق علبة البلاستيك، وناوله للممرض بعد انتهاء الإجراءات، لكي يرسلونه إلى المختبر. وهذا يتطلب ساعات، لأن القرية التي متّ فيها لا يوجد بها مختبر مجهز لهذهِ الحالات.
أخذوا العينة وأرسلوها إلى المدينة، بعد أن وضعوا بياناتي عليها، وأشار الطبيب إليهم أن يعيدوني إلى مكاني لانتظار النتائج، والتي تستغرق ساعات. أردت أن أرجوه، فمنعني كبريائي في حال رفض، فآثرت السكوت. طلب الممرض من العمال حملي ووضعي في نفس المكان الذي كنت فيه. قاموا بهذه المهمة وهذا الشرف. حملوني ووضعوني داخل الثلاجة، وأغلقوا الباب. ليتهم جعلوه مفتوحاً قليلاً. لم أحاول الصراخ كالمرة الأولى، لإدراكي أنهم لن يسمعوني، وإن سمعوني، لن يفهموا كلامي. كنت أريد أن أقول للممرض أن يستعجل في النتيجة ولا يتأخر لأنني أكره الانتظار، فكما يقال “الانتظار قطعة من نار”. ولكني لم أتفوه بكلمة.
حاولت أن أتذكر ما حصل لي قبل يومين.. سلمتُ على صديق لي أتى من الخارج. وبعد يوم أحسست بضيق التنفس، وحاولت أن أستخدم البخاخ الذي أستعمله دائماً، لأنني مريض بالربو المزمن، والبخاخ لا يغادر جيبي. ولكن هذهِ المرة غير كل المرات السابقة. كنت أحس بأعراض غريبة، بحمى وسعال وإرهاق، حتى إني لم أعد أستطعم الطعام أو أشمه. وبعد ذلك أحسست بصعوبة وضيق التنفس. حاولت أن أضع البخاخ، لكن دون جدوى. لا فائدة. تدهورت صحتي، فطلبوا الإسعاف، وبعد ساعات قليلة وصل فريق من الهلال الأحمر.
لم أفقد الوعي كلياً بعد. أراهم ولا أعرفهم. ازددت خوفاً، وأنا أرى أجهزتهم وملابسهم. أحدهم يحمل أسطوانة الأوكسجين، وآخر يحمل النقالة، وثالث معه أدوات طبية وأجهزة لم أرها من قبل ولم أسمع عنها. كانت ملابسهم وكأنها ملابس رجال الفضاء الذين نراهم في وكالة ناسا عندما نستمع إلى الأخبار أو نشاهد الأفلام الأمريكية، وكذبة هبوط الإنسان على سطح القمر التي صدقناها.
دب الرعب في قلبي وأصاب الهلع بناتي وأولادي من حولي، ولكنهم كانوا بعيدين عني، إذ لم يسمح لهم الاقتراب مني. أسمع المسعف يسأل زوجتي: “هل هو محصن من الوباء كوفيد 19؟”، فأجابت: “لا. لم يحصن. إنه يعتبرها مؤامرة”. هزّ المسعف رأسه وحوقل، وطلب منهم الابتعاد وأن يحجروا أنفسهم وكل من خالطهم، إلى أن تظهر النتائج ويتم فحص الجميع والتأكد من سلامتهم.
حاولت أن أطمئنهم وأرسم ابتسامة، وكنت أظن أني أبتسم ولا أعرف هل ابتسمت أم لا. وضعوا الكمام في فمي وأوصلوا به أسطوانة الأوكسيجين، ووضعوا أجهزة تخطيط القلب وقياس النبض. حاولوا أن يجدوا الوريد، وبعد جهد جهيد استطاعوا، لأن عروقي صغيرة كما قالوا لي سابقاً. استطاعوا أن يضعوا المغذي الوريدي وأن يستخدموا الحقن متى تطلبت الحاجة حقناً. وصلوا الكمام بالأوكسيجين، وأخذت أتنفس، وأحسست ببرودة الهواء وهو يدخل رئتي. وضعوني على نقالة إسعاف برتقالية اللون، وحملوني ووضعوني في سيارة الإسعاف، وكان صوت منبه الإسعاف لا يسكت ولا يتوقف، وكنت أزداد ارتباكاً مع استمرار صوت منبه الإسعاف.
أسمع صرخات أهلي حولي، وأنا عادة لا أحب الصراخ وأميل إلى الهدوء، ولم أعلم أن الهدوء سيطول إلى زمن طويل. شعرت ببرودة جسدي في أسفل بطني. قال أحدهم: “نبضه ينخفض”. وصاح بالآخر: “جهز لي جهاز الصعق الكهربائي”. أما أنا فأردت أن أقول لهم معترضاً: “الصعق لا.. الصعق لا..”. تذكرت المشاهد التي كنت أراها في الأفلام العربية، حيث يستخدمون الصعق في مستشفى المجانين للتعذيب، وأحاول أن أمنعهم، ولكن كانت قواي تخذلني، وصوتي خافت ومختف إلى درجة أني لا أسمعه.
بدأت أفقد الوعي شيئاً فشيئاً، فيما كان المسعف يعمل على جهاز التخطيط الذي تحول من التموج إلى حالة خط مستقيم، ويصيح: “جاهز الصعق”، ويضعه بعد أن يجعل كل طرف منه يلامس الآخر، ليتأكد من أنه يعمل، ويصدم به الصدر وكأن سيارة اصطدمت بشخص ما بسرعة ٢٠٠ كم في الساعة. غير أن الخرسانة لم تتأثر. كرر العملية مرات ومرات، ولكن لا استجابة. تجهم وجه المسعف وقال لصديقة: “لقد فارق الحياة”.
غطوا وجهي. حاولت أن أقول إنني أقبلت على الحياة أو هكذا خيل إلي. وكانت سيارة الإسعاف لا تزال تقطع الطريق بسرعة جنونية متجاوزة السيارات والإشارات، والشاحنات المتهورة خلفها تستغل فرصة الفوضى الخلاقة. وأكثر ما أزعجني ليس المتهورين وإنما الحفر في الطريق المعبد، والتي تقلبني ذات اليمين وذات الشمال. ولولا الحزام الذي ربطوني به لوقعت على وجهي. لعنتُ المقاول الذي لم يجعل الطريق مستوياً تماماً. إنه متعهد رسا عليه العقد، وهو سلمه لمقاول آخر، وذاك بدوره سلمه لآخر أدنى منه، وهلم جرى، دونما رقابة، ومع ذلك وقعوا لهم، واستلم المستخلص وسلم كل مقال حقه، وهكذا وصلنا إلى طريق غير مستو لعبور السيارات فوقه. كنت أتذمر منهم في حياتي الأولى وألعنهم في قرارة نفسي، ووجدت نفسي أقول: “حتى الميت لا يسلم منهم”.
بعد فترة سمعت أحدهم يدخل ولكنه كان يلبس كمامات واقية، وأسمعهم يقولون إن النتيجة إيجابية، ومعناها أني مصاب بكوفيد 19 وهذا يعني أن يغسلني طاقم من الصحة كما تغسل السيارات من بعيد، ومن ثم سأوضع في القبر من قبل طاقم آخر، ولا أحد سيكشف وجهي أو يقبلني وينظر إليّ النظرة الأخيرة، لا أولادي ولا أهلي. اكتفوا بعدد محدود لحضور الجنازة، بعد أن لفوني ببلاستيك ووضعوني في القبر وأهالوا التراب فوقي. سمعت سابقاً أن من حسن الخاتمة كثرة المصلين على الجنازة. فهل هذه من سوء الخاتمة، أم أن الشهيد ليس بحاجة إلى شفعاء؟