وزارة الثقافة.. تضخم وفقدان بوصلة!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
خلال سنوات التسعينيات الميلادية القريبة، كان معلمنا المصري القادم من إحدى قرى المنوفية، يحرص على مشاركة مدرستنا في مسابقة أفضل مسرحية بين مدارس المحافظة، فاشتغل على تكوين فرقة مسرحية، ثم كتب نصًا مسرحيًا، تدربنا عليه عدة أيام فاختار من بيننا من يكون بطلًا للمسرحية ومن يكون من الكومبارس، كل بحسب موهبته وقدرته على الإلقاء وحفظ النص. وفي اليوم الموعود يوم المسابقة، لم تحقق مدرستنا مركزًا متقدما بين المدارس، ولكن في طريق العودة وقبل وصولنا إلى منازلنا توقف المعلم بسيارته القديمة التي أقلتنا جميعًا بجانب أحد المطاعم، توقف ليكافئنا على مشاركتنا بعشاء من حسابه الخاص.
استذكرت ذلك المعلم النبيل ودعوت له على إخلاصه وحبه لعمله وحرصه على عمل إضافي لم يكن من بين واجباته ولم يكن بمقابل، استذكرته بعد قراءة مقال قصير للزميلة ابتسام القحطاني نُشر في صحيفة مكة يوم الخميس 4 فبراير 2021م، بعنوان: (وزارة الثقافة وسياسة التسويق.. بين الواقع والحلم).
فمما كنت أحلم به منذ تلك المسرحية هو انتشار المسرح في المدارس، نشاهد الأفلام الغربية التي دائما ما تصور مسرحيات لطلاب المدارس، وحصص مسرحية، استبشرنا خيرًا بوزارة للثقافة سوف تعمل على تأسيس بنية تحتية لأبي الفنون “المسرح”، فالمسرح هو فرس الرهان في العمل الثقافي، مثل كتابة النصوص وإخراج القصص والروايات، وتطوير الأداء التمثيلي والغنائي، فممثلي الأفلام والمسلسلات الكبار سواء في أميركا أو حتى مصر والكويت بدأوا من على خشبة المسرح. فالمسرح هو ذروة الإبداع، وبالوقت نفسه هو ذروة اليأس والإحباط.
وأعتقد أن هيئة المسرح تعمل حاليًا على تأسيس هذه البنية التحتية الضرورية والتي تتطلب وقتا أطول من غيرها وتخطيطا أكثر جودة، ونحن بانتظار نتائج عملها وإنجازاتها خلال السنتين أو السنوات الثلاث القادمة للنهوض بأبي الفنون.
ولكن بخصوص وزارة الثقافة الأم الحاضنة لجميع الهيئات، أقول كما قالت الزميلة ابتسام، من المؤسف أن يصل الحال لمرحلة الضمور والانكماش في العمل بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيسها كوزارة مستقلة للثقافة، ولم نر سوى أسماء المبادرات والمشاريع والمنصات وتأسيس الهيئات، وإطلاق حملات التسويق وتصاميم الإنفوجرافيك، في حين تصعب رؤية منجز أو مشروع ثقافي حقيقي ملموس.
انشغلت الوزارة بهيكلها الضخم عبر تأسيس هيئات كثيرة تابعة لها، كان يمكن أن تكون مجرد قطاعات أو إدارات داخل الوزارة وجزء من نظامها الإداري، لا أن تكون هيئات مستقلة ضخّمت من النتوء في جسد الوزارة حتى فقدت جمالها وبوصلتها الثقافية. هيئات وهياكل إدارية ورؤساء ونواب ووكلاء ومجالس إدارات، وأقسام تشغيلية متشابهة. يمكن توحيد العمل وتوفير المال والجهد بوزارة واحدة تضم إدارات أو قطاعات للتراث والأدب والمسرح والأزياء والأفلام والعمارة والفنون البصرية والمتاحف والمكتبات والمتاحف والموسيقى والطهي، بما أنها مرتبطة تنظيمياً بوزير الثقافة، فلماذا هذا التضخم الذي زاد من التطلعات والآمال في وقت لا وجود لمنجز ملموس. كان الأمل بأسيس وزارة ثقافية لتعمل فورًا، لا أن تنشغل بتضخم جسدها وتشعب مسؤوليها ومسؤولياتها.
انشغلت الوزارة بالموسيقى وتدريسها في المدارس وبالرخص الموسيقية ومعاهد الموسيقى، بينما المسرح أكثر أهمية وأشمل منها، والموسيقى جزء واحد من المسرح تتطور بتطوره وتنهض بنهوضه، ومثل هذه الاهتمامات أو الأنشطة أو الخطط يجب أن تنبع من داخل وزارة التعليم ومن صميم خططها واستراتيجياتها، وليس من خلال خطط وزارة أخرى.
انشغلت الوزارة بختم الخط العربي على جوازات السفر وعلى ظهور وملابس الخيل، وانشغلت بنوع وشكل الخط الذي تُكتب به أسماء اللاعبين على ملابسهم، وتركت تدهور وأحيانًا غياب اللغة في الأندية الرياضية وغيرها، يبدو لنا أنها تتعامل مع الخط العربي كفن تشكيلي وليس اهتمامًا من أجل اللغة ورعايتها، ولصالح إنقاذها من العبث اليومي.
انشغلت الوزارة بتغريدات عن ترجمة أمثال شعبية مثل (اللي في القدر يطلعه الملاس)، في حين كان يمكن أن تعهد بمهمة ترجمة الأمثال الشعبية المحلية كاملة وإصدارها في كتاب لأحد المترجمين أو دور النشر المحلية، من أجل حفظها وتوثيقها، لا أن تكون تغريدات عابرة في تويتر.
انشغلت الوزارة بسوق خضروات للمزارعين، وبمزارع وزراعة البن، بينما ينظر المثقف أو المهتم بالشأن الثقافي لهذا المشهد مبهوتًا يائسًا.
انشغلت الوزارة باستضافة فنانين، لم تقصر معهم هيئة الترفيه بدورها. وتركت مناقشة قضايا ثقافية كبرى أهم من استضافة فنان أكل عليه الدهر.
أطلقت الوزارة صندوق التنمية الثقافي، ولم نر طريقة الدعم ولا المجالات الفعلية التي يمكن دعمها، هل قدمت الدعم لأفلام شركات إنتاج محلية أو دعمت مجلات ثقافية تكاد تموت بسبب قلة الدعم، أو دور نشر وترجمة محلية مستقلة.
أطلقت الوزارة مبادرة تطوير المكتبات العامة في جميع مدن المملكة، ولكن ما زالت المكتبات أماكن أشباح كئيبة لا تشجع الناس على زيارتها والاستفادة منها.
وهذه الأيام انشغلت الوزارة بسباقات الخيل ما يصاحبها من أنشطة مثل الموسيقى والأزياء والخط العربي.
لا يوجد روزنامة مسرحيات، ولا معارض، ولا أنشطة ثقافية معتبرة. إن أغلب فعاليات الوزارة هي فعاليات وأنشطة جيدة، ولكن لا تؤسس لبنية تحتية ثقافية مستدامة للمستقبل.
أهملت الوزارة الأندية الأدبية، وهي الأصل في الحالة الثقافية بالمملكة وهي مخزون أدبي قديم متجدد بالمملكة، من إنتاج أدبي أصيل منذ تأسيسها إلى إطلاقها حلقات أدبية وفلسفية وعقدها ندوات متنوعة ظلت متواصلة لسنوات طويلة. لم تحصل الأندية الأدبية على اهتمام الوزارة، ولم تحظ برؤية كما حظيت قطاعات أخرى. ولم تحظ حتى بإنفوجرافيك واحد. الأندية الأدبية تستحق ما هو أفضل وتنتظر تطويرها وتحويل انتباه الناس إليها، الأندية الأدبية بحاجة إلى إعادة انتخاباتها وتفعيل مجالس إداراتها ودعمها بالرؤية والميزانيات، إن عقد محاضرة ثقافية في محل قهوة أو في بهو شركة لا يعني تجديد الثقافة، ولا يعني كذلك إهمال النادي الأدبي.
هل تخطط الوزارة لزيارة كل مدن ومحافظات المملكة وخلق فضاء ثقافي في كل مكان، أم يتركز عملها في المدن الكبرى فقط، عفوا في الرياض فقط.
بسبب تشعب اهتماماتها، يختلط علي الأمر أحيانا هل هي وزارة للسياحة أم الرياضة أم الترفيه أو حتى الزراعة، باستثناء الثقافة.
نتمنى من الوزير الأمير الشاب بدر بن عبدالله آل فرحان الالتفات لهذا الأمر، وتركيز الوزارة فعليا على الأدب الثقافة وعلى التنفيذ والإنتاج وليس الإعلانات والألوان، فالمشروع الحقيقي الذي يلامس احتياجات الأدب والثقافة سوف يسوق لنفسه بلا حملات إعلانية وتسويقية.