الرأي
الإغلاقات!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
لا شك أن جائحة كورونا التي اجتاحت الكرة الأرضية في العام الميلادي الحالي الذي أزفت أيامه على الرحيل، أثرت كثيرًا على البشرية، في جانبيها السلبي والايجابي. ولعل أبرز سلبياتها ليس فقط في الجانبين: الاقتصادي والاجتماعي، بل -في تصوري- تأثيرها السيء إلى حد كبير على النفس البشرية إلى درجة أنها أصابت البعض بظواهر سلبية عنيفة، بسبب طريقة معالجتها من الجهات ذات العلاقة.
ومنذ اعتراف العالم أو لنقل تبينه “خطورة هذا الوباء”، اجتهد كل مجتمع حسب خلفيته الثقافية والسياسية في البحث عن حلول ناجعة له، وانحصرت الحلول -كما أرى- في أربع طرق (حلول)، أولها الاعتراف بخطورة هذا الوباء وجديته والتعامل معه دون الاضرار بالمصالح الطبيعية أو لنقل استمرار الحياة بشكل طبيعي، ومَثَلَه الدول ذات التوجه الغربي، وثانيها الأخذ بأسرع الطرق وأسهلها: “الحظر”، ومنع التنقل. ثالثها جمع بين الطريقتين، وتذبذب في الاختيار، فمرة يستخدم الحظر وأخرى يناشد المجتمع التقيد بالإجراءات. والملاحظ أن المنهج الثالث استخدم في فترات معينة في المنهجين الأول والثاني. أما رابعها فهو أصحاب “أعمل نفسك نايم”. فقد رأت بعض المجتمعات نظرًا لظروفها الاقتصادية التظاهر أنها تتعامل بجدية مع الوباء دون اتخاذ إجراءات حقيقية للقضاء عليه.
وبعد هذه المدة ألم يحن لنا -إن حق لنا ذلك- أن نطبق الحوكمة على هذه المناهج، أظن ذلك!
الغرب الذي استخدم المنهج الأول ولاحقًا في مجمله خلطه بالمنهج الثالث، تمكن من إيجاد اللقاح والعلاج لهذه الوباء بعد عدة أشهر من اكتشافه. أما أصحاب المنهج الثاني “المنع والحظر”، فأشبهه بالطالب الذي يدخل الاختبار دون مراجعة حقيقية منتظرًا دفعةً من أستاذه أو زميله المتميز.
وأرى شخصيًا أن استخدام الحظر بشكل مفرط يكون عند المجتمعات العاجزة التي لا حيلة لها، وليس لديها القدرة الذهنية أو العملية لمواجهة الأمور الجسام وحلها. إذ أن أسهل القرارات في مثل هذه الحالات هو “المنع”. فعلى سبيل المثال:
– تعاني مجتمعاتنا العربية من أزمات عدة منها: زحمة الطرق (المرور) والتي تواجهها الجهات ذات العلاقة في بلادنا العربية بأسهل الحلول وأرخصها وهو قرار: “ممنوع الوقوف”.
– فتاوي “وعاظ/ مشايخ هذا العصر” المفرطين في التحريم أو التحليل، والتحريم أسهل قرار يتخذه المفتي، لعدم حاجة هذا النوع من الإفتاء إلى الربط والتفكير والاستنتاج.
وهذا النوع من القرارات نتائجه وخيمة على الإنسان، فهو يعمل على توقف ذهنية المسئول في إيجاد حل ناجع وحقيقي للأزمة المرورية، ويكتفي بدعم من الإعلام بالثناء على النجاح المؤقت، فالمرور أو الواعظ اعتقدا بأسلوبهما السريع أنهما قضيا على الإشكاليات، لكن الواقع يقول أن أزمة المرور تتفاقم وأن الأمراض النفسية والتناقض عند المستفتي تزداد، كل هذا بسبب اختيار القرار السهل غير المدروس. والقرارات الآنية تدفع إلى تتفاقم الأزمات لا إلى القضاء عليها.
– الشخص (المرأة) الذي يؤذيه الذباب في مجلسه فيطلب من أولاده أو أحفاده اغلاق الباب للحيلولة دون دخوله، معتقد وأولاده أنه الحل الناجع للقضاء على الذباب؛ والواضح أنه حل قاصر غير مؤثر، فخطورة مثل هذه حلول عدم تشجيع أفراد العائلة من التفكير الجدي في القضاء على الذباب وأذيته. فحل “غلق الباب” لن يمنع بأي حال من الأحوال- الذباب من الدخول إلا موقتًا، فسيبحث عن منفذ أخر لدخول، كما أنه سينتهز في كل مرة يُفتح فيها الباب لضروريات الدخول مرة أخرى. وهذا القرار غش أهل البيت فقد تصوروا بعد أن قلت أعداد الذباب أنهم في مأمن منه؛ والواقع يقول إنه باق لن يتزحزح من مكانه، وسيعبث في صحة ساكن البيت.
أما الطرق التي اتخذها المجتمع الأول، فقد كانت خطواته للقضاء على الذباب ليس أغلاق الباب (لأن الاغلاق لن ينهي الإشكالية أو يحلها) فماذا فعل؟
بدأ في دعوته إلى الحذر من استمرار فتح الباب دون ضوابط أو سيطرة، ولم يكتف بهذا الحل (لأنه يعلم أن الذباب سيستمر في الدخول)، بل عمل على البحث عن حلول عملية، مثل شراء ما يقضي به على الذباب (الأدوات البخاخات…. إلخ) أو وضع شبك لا يستطع الذباب الدخول من خلاله. محاولًا قصارى جهده استمرار الحياة دون منغصات اجتماعية أو نفسية على أفراد المجتمع. والواضح أن نسبة نجاحه في البداية غير مضمونة، لكنه يقدم نتائج ملموسة في النهاية، ومنها القضاء النهائي على الذباب.
أما المجتمعات التي اكتفت بغلق الباب، فإضافة إلى أنها ضحكت على نفسها بالاعتقاد أنها تمكنت من القضاء على الذباب أو خففت من تأثيراته، فقد عطلت دون ان تعلم- ما أعطاها ربها من النعم وأهمها نعمة “العقل”، الذي كان عليها استخدامه لإيجاد الحلول. والذي لا بد من قوله إن الذباب يجد في هذا الحل التقليدي فرصة لزيادة مساحة تنقله داخل المنزل، فأصبح يتنقل بحرية في أماكن مختلفة داخله ويعيث في الأرض الفساد.
والأمر المثير والمدهش بالنسبة ليّ ما سمعته من أطباء “عرب” عند شرحهم للقاحات التي صنعها (الذي لم يغلق الباب)، وآخرها لطبيب معروف عندنا في المملكة “جاسر الحربش” شخصية لها سمعتها ومكانتها، فقد أجاب على سؤال من إدريس الدريس مقدم برنامج “الأسبوع في ساعة” في قناة روتانا خليجية عن اللقاحات المعروفة حاليًا، فكانت اجابته بكل بساطة وبشيء من التبسيط المغلف بشيء من التعالي أن اللقاح الأول “الروسي والصيني” عُمل بالطريقة التقليدية التي نعرفها من عقود، أما الثاني فشَرَحه بأسلوب أوحى للمشاهد أن اكتشافه كان “سهلًا وبسيطًا”، وأكمل قائلًا: “إنها طريقة جديدة”. فإذا كان صناعته أمرًا سهلًا وبسيطًا فلماذا لم يتمكن الأطباء العرب من اكتشاف اللقاح أو على الأقل العمل بشكل جدي على إيجاده؟ وتمنيت أن المقدم “إدريس الدريس” طرح هذا التساؤل على الأطباء الذين يستضيفهم في برنامجه.
وأرجو ألا يبرر أحد عجز هؤلاء وسلبيتهم، بالأسطوانة الممجوجة “الدعم المالي”، فالذي أعرفه أن رواتب الأطباء في المستشفيات المتخصصة في أحيان كثيرة أكثر من تلك التي في القطاع الصحي في العالم الغربي (على الأقل في الخليج العربي)، فرواتبهم ومكاسبهم المالية في مجتمعاتنا العربية غير طبيعية، أذن ما هو الدافع لهذه السلبية؟ أظنه يا سادة -والله أعلم- “الفكر” فالفكر الواقعي جعل الطبيب العامل في الغرب (صيني، هندي، عربي، تركي …إلخ) ينجح في اكتشاف اللقاح، وهو ذاته الفكر “….”، الذي جعل الطبيب في بلداننا العربية لا هم له إلا التنقل في العيادات أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن المال والشهرة، ولو كان عن طريق الترجمة عن الآخرين.
وقد وجدتُ الإجابة على تساؤلي هذا في إجابة الطبيب السعودي د. صفوق الشمري الذي يعمل أستاذًا مشاركًا في جامعة يابانية، بقوله بتصرف: “…… البعض لا يعرف الفرق بين الأطباء الممارسين والعلماء، فليس كل طبيب عالمًا، فالطبيب عادة يطلق عليه MD. بينما “الطبيب العالم” يطلق عليه MD, Ph.D، والأخير له قواعده وقوانينه، ودراساته وشهاداته، وبعض الأطباء ربما لا يتحمس بعد أن يقضي سنوات عديدة في التخصص الإكلينيكي، في الحصول على الدكتوراه في الأبحاث؛ لأنها تستهلك جهدًا ووقتًا للاثنين، وآن الأوان لبعض الأطباء لدينا لكي يحرصوا على أن يكونوا علماء وليسوا ممارسين فقط، لكي يبدعوا في مجالات الطب الحديثة، وتقنيات الطب من الجيل الجديد، فعندما يحصل الطبيب على الدكتوراه في الأبحاث فإنه يكون قد تأسس التأسيس الصحيح لكي يبدع مستقبلاً، وعرف أسرار وقواعد المجال لكي يبدأ مشوار الاكتشاف، وكما نحن في الطب الإكلينيكي نحترم التخصص ولا نفتي بما هو خارج تخصصنا، فكذلك الأبحاث الطبية فهو تخصص له قوانينه وقواعده”.
وهكذا دون الإطالة أجد بكل أسف أن وزارات الصحة في عالمنا العربي، مثلها مثل إدارات المرور ….. إلخ، لم تنجح بالشكل الصحيح في مجابهة هذا الوباء، فيما عدا استخدامهم بنجاح أسطوانة التخويف لدفع الجهات العليا في الدول العربية الأخذ بأسهل الحلول: “الحظر، والمنع”، بغض النظر عن نتائج هذا القرار على الشخص العادي اقتصاديًا ونفسيًا والتي أدت إلى زيادة الفقير فقرا والغني ….، والمثير أن هذه الشدة والحدية لا نجدها في محاربة آفة المخدرات وحوادث السير (الطرق)، مع أن أعداد الوفيات من حوادث السيارات خلال القرن الماضي فقط وصل إلى (60) مليون قتيل بخلاف أصحاب العاهات المزمنة وهم مئات الملايين.
وعليّ القول أن ما ذكرته أعلاه لا يتعارض ما ذكرته سابقًا عن خطورة هذا الوباء على البشرية، أو يقلل من جهود وزارات الصحة، لكني استغرب اتخاذ وزارات الصحة العربية المثل المحلي غير الدقيق “باب يجيك منه ريح سده واستريح”، منهجًا لقراراتها.
والله من وراء القصد.