جموع تشيع صاحب “العمود النحيل”: وداعًا صالح الشيحي !
عاد إلى رفحاء فذهب إليه المحبون اعترافًا بدوره في خدمة الوطن
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
شيع الصحفيون والمثقفون وجموع غفيرة من المواطنين، اليوم الثلاثاء، الكاتب الصحفي الكبير صالح الشيحي بمسقط رأسه مدينة رفحاء.
رحل صالح الشيحي، لكن كلماته وسجاياه و موهبته ودماثة خلقه أبت أن تفارق محبيه خلال لحظات تشييعه المؤلمة، وذلك بعد أن عودهم على أن يكون بينهم يوميًا بموهبته وإخلاصه لوطنه وولاة أمره.
الجميع كان هناك يلوّح بخفقان قلبه والدموع للفارس الذي ترجل أخيرًا، بعد مسيرة صحفية ستبقى طويلًا درسًا للسائرين على هذا الدرب.
طغى على التشييع صدق وإجلال ممزوج بتعابير الحزن التي وحّدت بين أبناء الوسطين الإعلامي والثقافي، وأبناء الفقيد وجموع غفيرة من محبي صاحب القلم الرشيق والتعابير الرقيقة، مؤكدين بذلك أن “الناس شهود الله في أرضه” .
هناك في مسقط رأسه بمدينة رفحاء الحالمة بأقصى الشمال، كانت أجواء الصدمة والدهشة والألم تطوق المشيعين الذين جاءوا من كل أنحاء المملكة ليقولوا لـ”الكاتب الوطن”: شكرًا على ما قدمت..
هؤلاء جميعًا كانوا يتذرعون لله بأن ينصر صالح الشيحي في معركته ضد فيروس كورونا، الخبيث المستبد، قبل أن يفجعوا بخبر وفاته داخل إحدى مستشفيات العاصمة الرياض.
جاء مشهد وداعه شبيهًا بسيرته التي يتفق الجميع على تفردها، فقد نعاه زملاء المهنة، وأصدقاؤه، وجمهوره ومحبوه .حتى خصومه، بما في ذلك الذين لم يعترف بهم يومًا حزنوا عليه بصدق نبيل..
استحق صالح الشيحي أن يكون كاتب الوطن لأنه جمع بين حب الناس له، وحبه هو لوطنه وقادته وشعبه وأرضه.. أرضه التي مات ودفن فيها معتزًا بها، واختلط جسده بأديم أرض آبائه وأجداده، وكأنه يثبت مقولته المشهورة: “هذه بلدي أنا ما عندي شقة ببيروت أهرب إذا صار شيء مثل غيري، أنا ماعندي شقة بباريس أهرب، هذه بلدي أموت فيها بين أجدادي وأهلي، قبورهم موجودة”.
بدأ صالح الشيحي حياته العملية معلمًا، بعدما حصل على بكالوريوس اللغة العربية من كلية المعلمين بالجوف عام 1413هـ (1993م)، ثم صار وكيل مدرسة في مدينة رفحاء، لكن ثقافته الواسعة وشهامته الأصيلة وبداوته التي أساسها الترحال، ساعدته في الخروج من رحاب مدينته الصغيرة إلى آفاق مدن أكبر، كانت جدة في صدارتها، حيث بدأ فيها حياته الصحفية محررًا بدوام جزئي مع صحيفة “عكاظ “.
مع شروق الشمس في رفحاء، كان صالح الشيحي يبدأ البحث عن قصة إنسانية لكتابتها، فلا تغيب الشمس في جدة حتى تكون القصة منشورة في طبعة “عكاظ “الأولى، ثم انتقل إلى صحيفة “المدينة”، حتى بزغ نجمه مع انطلاق صحيفة “الوطن” في عام 2000م، حيث انتقل إليها متفرغًا للعمل بمكتبها في مدينة الدمام حيث تولى رئاسة قسم الأخبار المحليات.
كانت “الوطن” يومها مولودًا جديدًا؛ لكنها غيّرت المشهد الصحافي السعودي، وكان لمكتب الصحيفة في مدينة الدمام دوره في ذلك، مستفيدا بما قدمه الشيحي من أداء متفرد عبر عن هموم ومشكلات وتطلعات أفراد المجتمع ككل.
ساهم الشيحي مع زميلة في مركز الدمام فارس بن حزام في نقل الخبر المحلي من الصفحات الداخلية المجهولة إلى صدارة عناوين الصفحة الأولى، والتي كانت مخصصة ولسنوات طويلة لأخبار السياسة فقط من حروب ومجاعات وانهيارات دول وزلازل وبراكين، فكان بذلك يضع لمسته التي ستميز الوطن بعدها لسنوات.
استطاع الشيحي أيضًا وبمعية زملائه في قسم المحليات أن يحصل على اعتراف الجميع بدور الصحافي المحلي ومدى أهميته، محولًا بذلك الأنظار إليه أكثر وأكثر بعد أن كانت الأضواء مسلطة فقط على الصحافي السياسي أو الفني.
وبعد أن غادر الشيحي مكتب “الوطن” في الدمام عائدًا إلى مدرسته في رفحاء عام 2002م ، استمر على هذا المنوال ولكن من خلال كتابة مقال متقطع في صفحة داخلية بالصحيفة التي ارتبط بها حتى وفاته، ولم يمض وقت طويل حتى قرر رئيس التحرير قينان الغامدي نقل مقاله إلى الصفحة الأخيرة المهمة والأكثر قراءة ليكون عمودًا يوميًا ثابتًا، إيمانًا من إدارة الصحيفة بهذا الكاتب وبأفكاره الوطنية واهتمامه ليس بصحيفة الوطن، وإنما بكامل الوطن.
منذ ذلك الحين، بدأت معرفة الناس الأوسع بصالح الشيحي، فتحول عموده “لكن” والمشهور بالعمود النحيل، لمطلب يومي ينتظره القراء في سائر أرجاء المملكة . لقد استطاع العمود النحيل أن يعبر عن كل الوطن، عن هموم جازان والقريات، مشاكل الأحساء والباحة، آمال أبناء المدن والقرى الصغيرة الكثيرة، يكتب عن تطلعات النساء ويطالب بحقوقهن، يدافع عن الضعفاء، ينتقد المقصرين، ويشيد بالمحسنين، ومن يستحق الإشادة، أجبر الوزراء والمسؤولين على الرد والتعاطي مع القضايا التي تطرحها الصحافة.
لم يكن الشيحي مجرد كاتب مقال وإنما صاحب مدرسة في الكتابة المتفانية المتجردة من الأهواء والمصالح، المؤمنة بأن القلم أمانة ورسالة، وليس أداة للارتزاق أو الشهرة. يوما ما دعته إحدى المؤسسات الحكومية إلى زيارتها بعدما كثرت أخطاؤها ومشاكلها مع المواطنين، فحجزت له رحلة على الدرجة الأولى، وفي فندق خمس نجوم، ولكن فور عودته من الزيارة إلى مدينة رفحاء، كتب مقالا في عموده النحيل انتقد فيه تلك المؤسسة، ما آثار استياء مسؤوليها بعدما ظنوا أنهم “دجنوه” .
بالأمس رحل الشيحي تاركًا خلفه وطنا يحبه ، وابنته (وطن) وحسام وإخوانهم وأخواتهم وأمهم، إنا لله وإنا إليه راجعون.