الرأي
زكاة الفطر.. تغير تاريخي في مفهوم العيد
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
يا عيدٌ بأية حالٍ عدتَ يا عيدٌ شطر بيت نظمه الشاعر العربي المعروف أبو الطيب المتنبي المولود في الكوفة في حي قبيلة كندة المعروفة التي اتخذت لقرون مدينة الفاو (ك د ت) جنوب مدينة الرياض عاصمة لها؛ وقد وُصف لروعة شعره بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء؛ نقول إن العرب في القرون الأخيرة يكررون هذا الشطر كل عيد لأن حالهم منذ أكثر من أربعة قرون في تدهور اجتماعي وحضاري.
والعربي القديم في أرجاء وطنه الممتد من الخليج شرقًا إلى المحيط غربًا احتفل بالأعياد منذ أن بدأ يعمر الأرض أي منذ آلاف السنين، فمع تعدد الأعياد عنده إلا أن أبرزها في مصر على سبيل المثال الأعياد المرتبطة بالمعبودات سواء القومية منها أو المحلية الخاصة بكل معبود، نحو عيد “الأوبت” الذي ينتقل فيه المعبود آمون من معبده في الكرنك إلى معبده في الأقصر ثم العودة مرة أخرى، وعيد آمون في الوادي؛ وفي العراق صنو مصر في نشأة الحضارة نجد العيد المسمى عند السامين “أكيتو”، وتعني: (الحياة)، وكان -كما يقال- في جذوره القديمة الأولى عيدًا شعبيًا لجز صوف الماشية والأغنام، أو تُلفظ عند بعض الساميين (ح ج ت و) وذلك في اللغة الأكدية والعربية لاحقًا، هذا إذا استثنينا الأعياد الدنيوية المتعلقة بالفيضانات أو المواسم الزراعية أو الأحداث السياسية المختلفة.
ولم تكن شعوب المنطقة العربية بعيدة عن هذا المفهوم وهذا التقليد، فتعددت الأعياد الدينية عندهم بمفاهيم مختلفة ومتعددة. واستمر العربي في موطنه الأصلي “شبه الجزيرة العربية” يمارس هذا الاحتفال الديني حتى جاءت الأديان السماوية التي أدخلت مفهومًا مختلفًا على العيد، فلم يعد العيد هو تكريمًا للمعبود وتقديسًا له فحسب، بل أصبح بابًا من أبواب شكر الخالق جل وعلا على نعمه وأفضاله مثل عيد الفطر، الذي يحتفل به المسلمون في الأول من شهر شوال لإتمامهم بتوفيق من الله عبادة الصيام، وكان أول احتفال بهذا العيد في السنة الثانية من الهجرة في يثرب (المدينة المنورة)؛ فتغير مفهوم العيد من احتفالات طقوسية جامدة تؤدى كما تؤدى التمارين الرياضية الجامدة إلى شكر لله الخالق وإلى تفاعل اجتماعي عن طريق مشاركة الأغنياء للفقراء بدفع زكاة الفطر الواجبة على كل فرد مسلم.
ومن المؤسف أن المسلمين لم يتفقوا حتى اليوم على “زكاة الفطر”، فبعضهم أجاز استخراجها مالاً والبعض ما زال يصر على إخراجها عيش، وتحديدًا “الرز”، ويلخص حديث ابن عباس رضي الله عنه أهميتها بقوله: حديث: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ”. وهكذا فهي طهور لصائم من اللغو والرفث، والأخير هو قول الفاحش من الكلام؛ كما أن مشروعيتها تكتمل في إدخال السرور على فقراء المسلمين لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام “أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم”. ويستند أصحاب الرأي القائل بالأخذ بـ: “العيش” الذي يشمل بشكل عام قوت البلد ما أشار إليه الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري حيث قال: “كنا نُخرج صدقة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من زبيب”.
وهكذا فالزكاة التي تعني “النماء، والزيادة، والطهارة، والبركة”، وفي حالتنا هذه زكاة الفطر تشمل أمرين أساسيين، أولهما طهرة للصائم، وثانيهما إغناء للفقير من قوت البلد. فإذا كان المعيار الذي حدده الرسول بأبي هو وأمي ومن بعده صاحبته هو “قوت البلد”؛ وهذا يعني بطبيعة الحال إمكانية إخراج أي طعام -أن لم أكن مخطئًا- باعتماد الفقهاء أثابهم ربي على جواز إخراج “عن الكيل والادخار”؛ لذلك رفض الفقهاء على سبيل المثال عدً الخبز مما يزكى به في زكاة الفطر وعلتهم في ذلك أنه خارج الكيل والادخار، مع الأهمية اليوم الكبرى التي يحظى بها لخبز في مائدة البشر غنيهم وفقيرهم، كما أن قاعدة “الكيل والادخار” انتفت في أيامنا هذه فالخبز له وزن كما أن الثلاجات تسمح بادخاره لأسابيع وأشهر. لهذا أجده من المستغرب -وقد أكون مخطئًا- إصرار البعض مع الأسف- على اعتبار الزكاة فقط من العيش (طعام أو شعير أو تمر أو أقط أو زبيب). فاستنادًا إلى مقصد الشريعة وهو إدخال السرور على الفقير فما هو الشيء الذي يدخل في أيامنا هذه السرور على الفقير، هل هو تجميع عشرات وأحيانًا مئات من أكياس العيش هذه، والتي كما هو ملاحظ يقوم المحتاج ببيعها على تاجر الرز بسعر أقل من قيمتها الحقيقية.
وفي تصوري وتصور الغالبية أن الذي يفرح الفقير اليوم ليس فقط الرز، بل تسديد دينه أو فاتورة (كهرباء ..إلخ) أو مبلغ مالي يشتري فيه ما يحتاجه ليعينه على حياته وحياة أسرته؛ وأشعر صادقًا وأرجو أن أكون مخطئًا في القول ان إصرارنا على دفعها عيش بالمظهر الذي نراه اليوم في مدننا، لا نختلف طبعًا دون قصد- عن تلك الفئة التي ذكرها القرآن “وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ”. وكم أتمنى أن يعي الفقهاء الأفاضل الذين يؤدون دور الأنبياء حاجة الناس إلى فتوى تراعي مصالحهم، ومقاصد الشريعة السمحاء بإعادة النظر في مشروعية الزكاة بالمال فهي أوقع على المحتاج بل وتدخل السرور عليه، عوضًا عن إعطائه أكياس يقوم هو ببيعها والحصول على قيمتها.
وهكذا فإن العيد المشتق من عاد يعود، وسمي العيد هكذا لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد، فإذا انتفت هاتان الصفتان من العيد: الشكر لله على نعمه وافضاله التي لا تعد ولا تحصى، وإضفاء الفرح والسرور على المجتمع، فقد انتفت قيمة العيد كليًا، وهو ما دفع أبو الطيب المتنبي بقول شطر بيته المذكور أعلاه، فاستمرار الفقر بمختلف أنواعه أو الظلم العام والخاص، لا يجعل للعيد طعمه الحقيقي.
وهذا العام يحل علينا عيد الفطر للعام الهجري الحالي، وحال العالم مختلف كليًا بسبب انتشار جائحة “كرونا” التي غيرت وستغير في المستقبل عدد من المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسلوكية، بل طبيعة البشر، فستحل مفاهيم وتزول مفاهيم أخرى. ولعل ما سلبته منا “كورونا” في هذا العام أحد أبرز مفاهيم العيد وهو صلة الرحم، والتقاء المعيدين مع بعضهم البعض، إذ ستكون الزيارات وتبادل التهاني عبر وسائل الاتصال المعروفة، عوضًا عن الالتقاء المباشر.
نسأل الله أن يزيل هذه الغمة وتعود حياتنا إلى طبيعتها في أقرب فرصة، خالص التهاني والتبريكات للأمتين العربية والإسلامية، ولكم أخوتي وأحبتي.. والله من وراء القصد.