الرأي
كورونا يوحّد البشرية.. ويفرقها!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
في كتابه “الخطر الوجودي ومستقبل البشرية” يقول المؤلف توبي أورد: “أننا في القرن العشرين لم نفكر سوى في خطر واحد وهو الحرب النووية، بينما هناك عدد من المخاطر مثل: تغير المناخ، والذكاء الاصطناعي، والحرب البيولوجية”. ويرى أن إحساسنا بالمخاطر غير كاف للتعامل مع التهديدات القاسية، لذا يعقب على كلامه الصحفي هنري مانس من صحيفة فاينانشيال تايمز ويقول: “في مرحلة ما، العادات التي نمارسها طوال حياتنا ستتغير. وإذا كانت صدمة تعطيل فيروس كورونا غير كافية لإحداث التغيير، فما الذي سيكون كافيا لحثنا على ذلك؟”.
اليوم تتوحد البشرية وتتوحد الأمم أمام خطر فيروس كورونا المستجد، وهذا تغير بحد ذاته، فيروس صغير لم يفرق بين شعب وآخر، ولا بين فقير وغني، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين متدين وملحد، ولا بين دولة متقدمة أو فاشلة.
لا تفكر الدول اليوم سوى بهذا الخطر، وتضع جانيا كل المخاطر الأخرى، التي ولعقود طويلة أرهقت تفكيرها واستراتيجياتها، وأشغلت جداول أعمالها، وضاعفت من ترساناتها العسكرية، حتى جاءها الخطر من حيث لا تتوقع، فيروس صغير قاتل، ليس من الأعداء ولا من الأصدقاء ولا حتى من المحايدين.
هذا الوباء وما رافقه من هلع وذعر فرض على العالم وضع الخلافات جانيًا، والبحث عن علاج ومخرج من الأزمة العالمية. رعب الطاعون فرض على العالم حظر السفر الذي لم تفرضه الحروب ولا حوادث الطائرات، فرض إغلاق الأسواق التي لم تغلقها الحروب التجارية والعقوبات الاقتصادية ولا تجارة الإنترنت، سد أبواب المقاهي والحانات التي لم تسدها مظاهرات المناخ ولا فيضانات الأنهار والبحار.
وباء وحد البشرية في ردود أفعالها ومواساة بعضها، ولكن بالوقت نفسه فرقها وقطع وصالها وتواصلها، فلا سلام ولا تحيات، ولا مطاعم ولا مناسبات، ولا اجتماعات ترفيهية ولا لقاءات حميمية ولا مقابلات رياضية، حجر منزلي وحظر تجول في بعض الدول.
تمامًا كما فعلت العولمة التي ألغت الخصوصيات بين المجتمعات وجعلت من العالم قرية واحدة، استطاع هذا الوباء أن يلغي الخصوصيات والحدود، بل أن يزيد على ذلك بأن يوحد من التصرفات والسلوكيات وردات الأفعال، فإجراءات مواجهة الطاعون تشابهت بحكم الضرورة، وسلوك النظافة الشخصية بات موحدًا. والتسابق إلى تخزين الطعام والمناديل والكمامات ومحاليل التعقيم هو نفسه تقريبًا في كل مكان.
وباء زلزل أفكار الأحزاب الشعبوية المتطرفة، كشف لها صعوبة عيشها بمفردها بعيدًا عن جيرانها، فجمهور الشعبوية الإيطالية لم يتضرروا من المهاجرين في إيطاليا أو من الدول المجاورة، إنما جاءهم الضرر من أقصى الأرض من الصين، فالعالم مترابط ككتلة واحدة، وما هو بقربك قد لا يؤذيك بقدر البعيد. أيضا استطاع الفيروس أن يشكك في الكيانات السياسية والاقتصادية مثل الاتحاد الأوروبي الذي بات مصير أعضائه الضعاف مجهولًا وبلا مساندة ودعم من الأعضاء الأقوياء. فهل يترك الأعضاء الصغار اتحادهم خلف ظهورهم ويتجهون إلى كيانات واتفاقيات خارج القارة العجوز وخارج حسابات وتشريعات الاتحاد الأوروبي بحثًا عن الحياة.
يبقى السؤال ليس عن آثار الوباء التي يخلفها كورونا، ولا عن إعادة افتتاح المقاهي والحانات والعودة إلى المدارس، ولا عن أخبار اللقاح الجديد إن وجد، إنما السؤال هو سؤال هنري مانس السابق: هل العادات التي نمارسها طوال حياتنا ستتغير. وإذا كانت صدمة تعطيل فيروس كورونا غير كافية لإحداث التغيير، فما الذي سيكون كافيا لحثنا على ذلك؟
بعد أن نفيق من صدمة كورونا، هل سنعود إلى سابق صراعنا وهجومنا على بعض، هل سنعود إلى سباق التسلح النووي والحروب القذرة وإلى إهمال قضية تغير المناخ وإلى تجاهل تلوث البيئة ونقص الأشجار، والتقليل من أثر ومؤامرة الحرب البيولوجية؟ والأخيرة تُوجه إليها أصابع الاتهام فيما يحدث حاليًا. أو يكون العكس تجبرنا الصدمة إلى تغيير الاتجاه إلى مزيد من التعاون والتنوع الثقافي وقبول الآخر.
هذا الفيروس غير الفاضل كشف عن الفضيلة وحسن النوايا، دول كثيرة وقفت إلى جانب المارد الصيني، وكأن ليس بوباء. وإنما الوباء هو السياسة والسياسيين والنفعيين والشعبويين.
هل ستعود البشرية إلى صراعاتها العرقية وأطماعها التوسعية، وإلى حروبها التجارية والاقتصادية، حتى يظهر فيروس صغير جديد فتبحث مجددًا عن خوف يوحدها، ويجعلها تعيش الرعب نفسه، وتختبئ في خندق واحد!
الإجابة السوداء غير الفاضلة هي “نعم”. فالإنسان ينسى، وبالوقت نفسه يحمل بداخله جينات التوسع والدمار وسفك الدماء.
ليش سوداوي متشائم.. ولكن كلامك صحيح نتحد عند المصيبة ونتفرق عند الرخاء