الرأي
رسالة لن تصل!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
قبل ثلاثة عقود تقريبا كتب فقيدنا الحبيب د. نجيب الزامل عن فاجعة ألمت بأخته الكبرى التي فقدت إبنها “تمّام” في ريعان شبابه في حادث سير مؤلم وطوق مقالته بذات العنوان المبتكر “رسالة لن تصل” وقد صدق! حيث وجه كلماته الى إبن أخته الذي لن يقرأها وعبر فيها عن مشاعر الفقد وألم الحزن وكان مقالا متميزا تنبض كلماته بالأحاسيس وتحمل معانٍ لا تصوغها إلا أنامل نجيب الساحرة!
برع أبا يوسف في مجالات كثيرة فكان إداريا محنكا ومثقفا متألقا وقائدا للتطوع ومبادرا لا تهزمه الحواجز ووجيها اجتماعيا يداوي الجراح والخلافات بكلمات كالبسلم و كان كاتبا لا يشق له غبار لا تمل قراءة مقالاته ، ومما برع فيه أدب “رثاء الراحلين” فكانت كلماته كالبشائر لقلوب الأهل والمحبين ، ثم بادر فكان يكتب عن شخصيات لا يعرفها الإعلام أو لم يعطها حقها من الثناء الذي تستحقه وكنا ننتظره كل أسبوع لنعرف الشخصية التي سيختارها. علمنا نجيب درسا رائعا وسلوكا جميلا وهو أن نكرم الاحياء قبل أن يرحلوا وأن نعبر عن حبنا لهم ومكانتم لدينا وهم أحياء في صحتهم ، وأن نثني على كل فرد فيما تميز به ونشكره لننصفه ونحفزه وأن لا نقصر ذلك على البارزين أو الوجهاء.
كانت مقتطفاته كل جمعة في صحيفة الاقتصادية درسا للكتاب ، فهو لا يكتب خاطرة او فكرة او ينقل حديثا كما يفعل أغلب الكتاب ولكنه يجتهد ويتألق ليٌعد لنا حصيلة علمية وإخبارية ويقدم أراءاً متفردة يأسلوب مبدع في الصياغة يتشوق لها القاريء ويفتقدها فلا غرابة أن تتناقلها المواقع الالكترونية شرقا وغربا دون حدود الوطن أو الجغرافيا. كانت مقالاته وصفحته كل جمعة التي يكتبها في صحيفة اليوم تميزا لا يباريه فيه أحد في الاطلاع والتنوع فسبحان من وهبه الى جمال القلب والروح هذا اليراع المبدع والمعين الذي لا ينضب حتى رحل من الدنيا الفانية الى الدنيا الباقية! علمنا نجيب أن الكتابه فن ومهمة شاقة وأن الكاتب الذي يستحق أن نقرأ له هو من يبذل الجهد ويحترم عقل القاريء ووقته ويقدم له خلاصة بحثه وليس ذاك الذي يكتب وكأنه في ديوانية!
تميز د. نجيب بكلماتة الإيجابية المشجعة لكل من يصادف ولو في تغريدة! وكان يتحدث مع كل من عرف وينسب له الفضل والموهبه ويشكره على كلماته وحتى ابتسامته. كان د. نجيب متواضعا ومن أكثر الاشخاص الذين يصورون سلفي مع كل من يقابلهم ويمنح ابتسامة تشعرهم انهم الاقرب اليه! ومما يسلي النفس عند فقد الأحبه ذكراهم الجميلة وقد حظيت ببعض الذكريات مع الحبيب أبا يوسف صاحب الابتسامة الأخاذة والنفس المشرقة والروح الطيبة بحكم القرابة والصداقة. كان هذا ديدنه منذ شبابه فقد كتب لي وأنا في الرابعة عشر من عمري ولم يميزني شيء عن أقراني وليست لدي مواهب أتفرد بها .. كلمات تبعث في النفس الطموح والثقة قال فيها:
“عزيزي محمد .. يسرني أن أكتب شيئا هنا .. لكن لك من الصفات الجميلة ما تعجز عن حمله صفحة صغيرة .. فأنت كبير بطباعك .. وبذكائك الخلاق .. وعنما تغدو شيئا في المستقبل .. تذكر صديقك العجوز .. نجيب عبدالرحمن الزامل” .. وكنت دوما أذكره فيها وأهدده أنني سأنشرها بعبارة صديقك العجوز وكان يرد قائلا “ياويلك ..”. علمنا نجيب أن نبادر فنشعر الآخرين بالحب والسعادة ونحفزهم فنرد على اهتمامهم وكلماتهم بأحسن منها وأن كلمة جميلة نقولها قد تترك أثرا لا نتخيله فتوقد أملا وتسعد حزينا وتحفز محبطا وتصنع في يومه ذكرى جميله.
وحين أصبت بمرض السكر في أوائل الثلاثينات اتصل بي متفائلا وهو يقول: “مبروك لك طول العمر!!” .. فسألته ماقصدك؟ .. فرد بإجابة كانت ولا زالت درسا لي: ” ان السكريون اذا إهتموا بتغذيتهم وممارسة الرياضه لم يحافظوا على صحتهم من عواقب مرض السكر فقط ولكنهم يصبحون أكثر صحة وعافية ويرزقهم الله عمرا أطول من غيرهم ممن لا يهتم ولا ينتبه لتغذيته ورياضته!”. علمنا نجيب أن نهتم بمواساة الآخرين ولو بكلمات وأن ننظر للجانب المضيء حتى في المصائب والأقدار التي نكرهها وأن لا نجعل الحزن أو اليأس يتسلل إلينا مهما كان حجم الحدث.
وحين استشرته في أن اجمع مقالات كتبتها عن الابداع والابتكار في كتاب شجعني كثيرا وعرض أن يقدم للكتاب وأن يساهم في الترويج له ، وكان من حسن حظي أن يقترن اسمي بإسمة في غلاف الكتاب وكذا فعل مع زملاء آخرين. ولحرصه على توعية المجتمع وتثقيفه ترأس لجنة منتدى أسرة آل زامل واستثمر علاقاته ليستضيف ابرز المتحدثين ويحاور بعضهم فكانت اللقاءات متميزه والحضور كبير وكان له الدور الاكبر في نجاح المنتدى رغم عمره القصير. ولا غرابه في ذلك فقد أسس جمعية العمل التطوعي وجمعيات أخرى حتى خارج السعودية. علمنا نجيب أن نقدم المساعده ونشجع كل مبادرة تضيء للمجتمع أو الوطن أو العالم بأقل مانستطيع ولو كانت كلمة تشجيع وأن نترك بصمة ولو كانت صغيرة فالاشجار تنمو من بذرة.
وبعد تحرير الكويت دعاه د. عبدالرحمن السميط رحمه الله لرحلة الى أفريقيا مع جمع من رجال الاعمال وكنت مع الزميل طارق ابراهيم الفريق الاعلامي للرحله ، وكان نجيب رحمه الله من اجمل وابرز الضيوف وممن يسعد د. السميط بالحديث معه وكتب د. نجيب عن المسلمين في افريقيا وعن أعمال اللجنة و د. السميط العديد من المقالات حينها.
لم نشاهد نجيب الا مبتسما رغم الآم امراض الكلى التي عانى منها منذ صغره ورغم الفترات الطويلة التي كان يمضيها على اسرة المستشفيات والتي كانت والدته تقول عن آخرها ” لم أكن أظن أنه سيعيش بعدها!” ولكن الله قدر له ان يموت وهو في صحته وفي سفر مع اسرته ليعود فيدفن في مكه وهي المدينة التي أحبها ولكنه منع عنها لأن مناعته ضعيفة وقد حذره الاطباء من الأماكن المزدحمة. ومما لا يعلمه الكثيرون ان ابا يوسف كان نائبا لمدير ميناء الدمام وكان امامه فرصه ليكون مسؤلا بارزا وناجحا لكنه ترك الوظيفة تلبية لطلب والدته التي خشيت عليه بسبب وضعه الصحي.
هذه الكلمات ليست الا ثناء بسيطا وبعضا مما عرفت عن الفقيد الذي نغبطه لكثرة حب الناس ودعاؤهم له واغلبهم لا يعرفه ولم يقابله. وعزاؤنا في فقده ان كلماته وآثاره باقية بيننا تذكرنا بالأيقونة الجميلة التي رحلت وحقه علينا الدعاء وان نقتدي بخلقه الطيب وهمته العالية وتواضعه الجم وأن نترك ولو شيئا بسيطا حين نرحل يوما ما عن هذه الدنيا.
@almansour_mohd