الرأي
التعنيف..!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
كان يوم عمل طبيعي للجميع إلى أن وصلت “فاطمة” مرتدية النقاب. اعتقد زملاؤها أنها ارتدته التزاماً، لكن ما خفي عليهم كان أعظم. فقد اضطرت “فاطمة” على ارتداءه لتخفي آثار الضرب المبرح والكدمات التي تلقتها من زوجها في الليلة الماضية. آثرت فاطمة السكوت لكن دموعها كانت أجرأ منها وأجبرتها أن تصارح زميلتها التي بدورها أخذتها لعيادة العمل. قصة “فاطمة” ليست إلا واحدة من آلاف قصص التعنيف المتستر عليها في بيئتنا ومحيطنا و لا نعلم عنها شيئاً.
للتعنيف أشكال متعددة. فهناك التعنيف الجسدي ، وهو المتعارف عليه ، وهناك التعنيف اللفظي ، وهو تطاول بالكلام فيه حرج للمشاعر وإهانة المعنف. هناك أيضاً التعنيف النفسي ، وهو أسوأ شكل من أشكال الابتزاز ، حيث يتمتع المعنِّف بإيذاء ضحيته لما لديه من سلطة عليها عن طريق الإهانة أو التسلط. ومع تعدد أنواعه، يبقى التعنيف الجسدي الأكثر شهرة، أما الأنواع الأخرى فيعتريها الحياء ، وتبقى منكسرة ، خجولة ، مختبئة تحت الغطاء ، ترفض أن تظهر للملأ. فقد نظرت دراسة مؤخراً إلى انتشار التعنيف في مختلف الدول، فكانت منطقة الشرق الأوسط متربعة في المرتبة الثانية عالمياً ، وإذا حصرنا نظرنا إلى السعودية، فهناك دراسة محلية على منطقة الأحساء، هذه المنطقة الهادئة المسالمة، وجدت أن 41% من المعنفات صامتات يرفضن التبليغ أو طلب المساعدة.
كسرطان فتّاك تعدى ضرر التعنيف نفسية وجسد المعنفة ليتفشى في المجتمع وبانت أعراضه على أصعد مختلفة. فعلى الصعيد الصحي، تبين أن المعنفة معرضة للإصابة بالأمراض 4 مرات أكثر من غيرها، إضافة إلى كثرة زياراتها للعيادات الخارجية و التنويم مقارنة بغير المعنفة، وفي بعض الحالات، يكون التعنيف سبباً في الإجهاض. أما بالنسبة لأطفال المعنفة، أجيال المستقبل، فهم كذلك أكثر عرضة للإصابة بالأمراض والإكتئاب والسمنة مقارنة بغيرهم.
و على الصعيد الاقتصادي، فإن المعنفة تغيب عن عملها أكثر من غيرها، إضافة إلى كونها أكثر عرضة للاكتئاب وكثرة زياراتها للطبيب، والذي يترجم في لغة الاقتصاد إلى صرف وتكاليف تؤثر على الناتج العام. فالأمراض المزمنة والسمنة (في أغلب الأحوال) تتبعها سلسلة من التكاليف العلاجية التي كان من الممكن تفاديها.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن المعنفة عادة ما تعتزل علاقاتها الأسرية والأصدقاء مجبورة أو برغبتها بسبب الإكتئاب أو تستراً على الكدمات الظاهرة عليها. يتغلب عليها الشعور بالضعف والانهزام الذي قد يصل بها أحياناً للرغبة في الانتحار.
فيكون السؤال: لماذا لا تبلغ المعنفات عن إيذاءهن؟ لماذا لا يطلبن المساعدة؟ .. لأننا باختصار نعيش في مجتمع “العيب”. مجتمع فيه شريحة كبيرة لا ترى أن التعنيف مشكلة. مجتمع آثر السكوت والتغاضي بحجة أن تمشي الحياة. مجتمع يمد كل أصابع الاتهام لمن تحاول طلب المساعدة متهمينها بالتهاون و الاستهتار بالحياة العائلية و”العشرة”. و بالرغم من أننا نعيش ثورة تمكين المرأة، إلا أن الكثير منهن غير موظفات وبالتالي يعتمدن على الرجل (الأب، الأخ، الزوج) في أمور الصرف والمعيشة، مما يجعلهن أكثر عرضة للتعنيف وتقبله، إذ لا حول لهن و لا قوة. وحتى أولئك الموظفات يكون تعنيفهن النفسي بالابتزاز وأن يستولي المعنف على دخلها و ليس لها سوى طأطأة رأسها والاستسلام لأنها لو، لا سمح الله، طالبت بحقوقها فهي بذلك تُعرّض نفسها للتصعيد في التعنيف ليتحول إلى جسدي أو حتى نفسي بأن يهددها بحرمانها من أطفالها أو عملها أو حتى زيارة أهلها.
لحل أي مشكلة، وجب الاعتراف بها أولاً. التعنيف آفة موجودة في العالم كله ، ونحن جزء من هذا العالم ونعاني منه كثيراً. فقد أشارت آخر الإحصائيات أن 36% يتعرضن للتعنيف النفسي، و 18% يتعرضن للتعنيف الجسدي، و 7% للتعنيف الجنسي. هذه أرقام مرعبة ولها آثار دامية على المجتمع و الاقتصاد. لذلك نجد هناك حراك حديث نوع ما لتداعي الضرر الذي سببه هذا المرض. أقول مرض لأنه كالمرض في تفشيه و كالمرض في ضرره و كالمرض يحتاج لعلاج.
تم مؤخراً إنشاء مراكز هدفها التوعية بحقوق المرأة و حمايتها من العنف، و لعل أهمها ما تقوم به هيئة حقوق الإنسان في الرياض. لا نبخس هذه الجهود حقها في المحاولة لكن الموضوع أصعب و أعقد من ذلك. المرض متفشي في جذور المجتمع و اقتلاعه يجب أن يكون من الجذور أيضاً. يجب تعليم أطفالنا في المدارس. يجب توعية شبابنا في الجامعات. يجب تثقيف موظفينا في العمل. هذا يكون عن طريق تكاتف الوزارات و الجهات المعنية بتقديم هذه الخدمات لتجتث هذه اللآفة من أعماق و فكر المجتمع. عدى ذلك، و مع الأسف، لن تكون كل الجهود المبذولة إلا نفض مؤقت للغبار.. ليتجمع من جديد و يغطي كدمات أعمق.