حينما يقصّر المسؤول عن التنظيم تنهار المنظومة **
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
حاول المقال السابق (الحياة 15/7/2019) البحث في جذور أزمة الصحافة الورقية السعودية، وهي أزمة لا تشبه غيرها في مختلف أنحاء العالم بالضرورة، فلا يقتصر الأمر على حضور الوسائل الرقمية بديلاً عن الطباعة في نقل المعلومات والمعرفة، ففي أماكن كثيرة من العالم استطاعت المؤسسات الصحافية تجنب الانهيار الكامل حتى مع التوقف عن طباعة صحفها ومجلاتها، وذلك بتغيير نموذج عملها (Business Model) وتبني الوسائل الرقمية وإعادة صياغة علاقتها مع المعلنين، وهذه هي طبيعة السوق الحر، فمؤسسات الأعمال إما أن تتكيف مع الظروف الطارئة وتغير جلدها وإلا فإنها تضطر للانسحاب من السوق فيما يعرف بـ”مبدأ الحد من الخسائر”.
وليس هنا مجال لشرح اقتصاديات المؤسسات الإعلامية، ولكن الحكومة السعودية حينما أصدرت نظام المؤسسات الصحافية عام 1964 كانت تهدف إلى قيام مؤسسات قوية تعمل وفقاً لمبدأ اقتصادي مستدام، وبديلاً عن الاجتهادات الفردية في الصحف التي كان يصدرها رواد مثل حمد الجاسر وأحمد عبد الغفور عطار وعبدالله بن خميس وآخرون، وكان هناك قناعة بأن رأس المال الوطني بتحالفه مع المثقفين قادر على إنشاء هذه المؤسسات للقيام بدورها التنويري في المجتمع.
ولكن هذا النظام، الذي كان صيغة تنظيمية متطورة في زمنه، وضع -من حيث لا يدري واضعوه- مجموعة من العلل في جسم المؤسسات الصحافية الوليدة لم يكن من السهل الشفاء منها، وأزعم أنها سبب فيما تشهده المؤسسات الصحافية الآن من أزمات.
وأول هذه العلل كان يتمثل في الإعانات الحكومية، فعلى رغم أن النظام لم ينص على أي شكل من الإعانات، إلا أنه تم إقرارها بالفعل بأشكال متعددة. ومن هذه الأشكال إعانة مقطوعة لكل مطبوعة إلا أنها مشروطة بنشر الإعلانات الحكومية مجاناً، حتى جاء زمن أصبحت هذه الإعانة لا تمثل في قيمتها رواتب شهر واحد لأضعف المؤسسات الصحافية، كما أهملت الصحف إعلانات الحكومة لأنها تستقطع مساحة ثمينة تباع للمعلنين التجاريين، ثم إن الدوائر الحكومية جميعها كانت ملزمة بالاشتراك في الصحف والمجلات كافة بأعداد تكفي لأن يأخذ كل موظف نسخة كاملة من كل هذه الصحف والمجلات (أو بعضها بحسب مرتبته الوظيفية) لمنزله في نهاية الدوام، وحين اتجهت الدولة لترشيد الانفاق انقطعت هذه الاشتراكات ولم تشعر معظم الصحف بذلك حين زادت مداخيلها من الإعلان والبيع المباشر للجمهور، هذا إضافة إلى إعانات غير منظورة أخرى ومنها النقل المجاني على طائرات الخطوط السعودية والإعفاءات الجمركية… إلخ.
هذه الإعانات التي تتناقض مع مبدأ السوق الحر والمؤسسات القائمة على مبادئ اقتصادية، كانت ضرورية حين كان السوق ضعيفاً، والدولة حريصة على تقوية هذه المؤسسات حتى يستقيم عودها، وهو ما حدث حين انتعش الاقتصاد وأصبحت السوق السعودية قبلة للمعلنين.
وهذا ما يفسر عودة تفكير قيادات المؤسسات الصحافية للإعانة الحكومية كطوق نجاة بعد أن انصرف المعلنون.
ثاني العلل تمثل في أن النظام -في نسخته الأولى التي عمرت طويلاً- جعل المؤسسات الصحافية بحيرة راكدة لا تدخلها الدماء الجديدة في قيادة جناحيها التحريري والإداري، فقد كان النظام يشترط أن يكون من يتولى منصبي رئيس التحرير والمدير العام من الأعضاء المؤسسين، كما ضيق النظام فرصة دخول مساهمين جدد إلى هذه الشركات المقفلة التي لا يحكمها نظام الشركات. واضطرت وزارة الإعلام إلى منح الكثير من الاستثناءات من هذا الشرط تحت ضغط الحاجة، خاصة في منصب رئيس التحرير، إلا أنه لم تبد هناك حاجة -للأسف- لمنح الاستثناء نفسه لمنصب المدير العام، كما منحت الوزارة استثناءات خاصة لدخول مساهمين جدد، سواء من الجسم الصحافي كما حدث في بعض المؤسسات أو من خارجه (مسؤولين ورجال أعمال) في مؤسسات أخرى.
لكن هذه الاستثناءات لم تنجح في معالجة المرض المزمن، على رغم أنها أحدثت حراكاً في مستوى الممارسة المهنية الصحافية، وكذلك لم تتم معالجة الأزمة في النسخة الثانية من النظام التي صدرت عام 2001، على رغم أنها أزالت القيود السابقة، لأن التقاليد والعقليات الإدارية الراسخة لدى قيادات المؤسسات الصحافية من جمعياتها العمومية ومجالس إداراتها لم تكن على درجة الاستعداد نفسها للقيام بحراك تطويري حقيقي يستشرف المستقبل، فقد كان الجميع في حالة نشوة تعاظم المداخيل وتوزيع الأرباح وإنشاء المقرات الفاخرة واستيراد المطابع الحديثة المتطورة والتفاخر بعدد الصفحات الملونة.
والخلل من وجهة نظري يقع في جزء كبير منه على وزارة الإعلام، فهي الجهة التنظيمية (Regulator) التي كان من مسؤوليتها متابعة تطبيق النظام، خاصة في الأجزاء الصريحة منه والتي تطالب هذه المؤسسات بتخصيص أجزاء مهمة من الأرباح لتطوير العمل الصحافي وترقية الأداء المهني للصحافيين، فالوزارة كانت مطمئنة إلى أنه لا توجد مخالفات في الأداء الإعلامي، ومندوب الوزارة الذي يحضر اجتماعات الجمعية العمومية كان يكتفي بتهنئة أعضاء المؤسسة على النجاح والأرباح.. أما مصطلح “الحوكمة” فلم يكن معروفاً ولا وارداً في الأذهان، وحينما تقصر الجهة التنظيمية تكون المنظومة أكثر عرضة للانهيار.
هكذا كان حال المؤسسات الصحافية وكانت حالة وزارة الإعلام، فماذا كان دور الصحافيين في الأزمة؟ وماذا فعلوا لإنقاذ مهنتهم؟ ألم يكن “العمل على الارتقاء بمستوى المهنة وتنمية قدرات العاملين في هذا الحقل” أحد أهم أهداف هيئة الصحافيين التي أنشئت بموجب نفس النظام؟
المساحة تضيق، فلعلنا نفتح هذه الصفحة الأسبوع القادم.
سلطان البازعي
نقلاً عن (الحياة)