عندما يتحدث العود.. يصغي العالم
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
قبل خمس سنوات دخل علي في مكتبي في جمعية الثقافة والفنون بالرياض أربعة من الموسيقيين اليابانيين في زيارة نسقتها سفارتهم بالرياض، كان هذا الفريق المختص بالموسيقى اليابانية التقليدية يزور الرياض لتقديم عروض خاصة للجالية اليابانية في محيط السفارة، ولم يكن متاحاً أو سهلاً حينها أن يقدم هذا الفريق عروضاً عامة للجمهور السعودي، لكن السفارة وبمبادرة منها رأت مناسبة أن يتعرف الفريق على جانب من النشاط الموسيقي السعودي، وكانت الجمعية هي المؤسسة الوحيدة التي يمكن الذهاب إليها وتفتح أبوابها لموسيقيين أجانب.
ما أن دخلوا، وقبل أن نتبادل التحيات التقليدية -عبر مترجم السفارة- حتى لمح أحدهم، وهو قائد الفريق، العود المنصوب بأناقة على حامله في مكتبي، فقفز إليه وتناوله وأخذ يعبث بأوتاره غير “المدوزنة” لطول الإهمال، لكنه نجح في استخراج أنغام استمع إليها بدهشة وشغف. وهذا العود بالذات وصلني بالإهداء من الصديق الفنان حسن خيرات الذي كان يستحثني على الوفاء بالتزامي لتعلم العزف عليه، وهو يعلم مدى شغفي بالاستماع إلى تقاسيمه، وهو ما لم يحدث للأسف حتى الآن.
اهتمام ضيفي الياباني بالعود قادنا إلى الحديث عن الفروقات بين الآلات الموسيقية العربية واليابانية، فشرح بعضاً من الآلات الوترية والنقرية اليابانية التقليدية التي يعزفون عليها ومنها “الكوتو” و”الشاميسين”، ثم انتقلنا إلى اقتراح فكرة أن يلتقوا ببعض الموسيقيين السعوديين في ورشة عمل ليتعرف كل جانب على الخصائص الموسيقية للآلات، وتوقعنا أن ينتج عمل مشترك بينهما.. وهو ما حدث بالفعل، حيث طلبت من زملائي تكوين فريق من عازفي العود والقانون والكمان للالتقاء بالموسيقيين اليابانيين.
ففي أمسية صيفية اجتمع جمهور محدود معظمهم من اليابانيين في حديقة منزل السفير ليستمعوا إلى مقطوعات موسيقية عربية ويابانية بمشاركة الآلات اليابانية والعربية معاً فكان مزيجاً فريداً من نوعه، ومبلغ الفرادة في الأمسية أنه لم تكن بين الفريقين لغة مشتركة إلا لغة الموسيقى التي استطاعوا التفاهم بها والخروج بتجربة متميزة للغاية.
الموسيقي والملحن السعودي خليل المويل أخذ التجربة إلى أبعاد أرحب حين شارك في أسبوع ثقافي نظمه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء” في العاصمة الكورية سيول حين قدم مع العازفة الكورية شيان حواراً موسيقياً بين العود وآلة الهيجوم الكورية في عزف ارتجالي، كما وضع توزيعاً موسيقياً للفولكلور الكوري الشهير “أريرانج” ليتمكن العود من المشاركة فيه، وأيضاً ألف مقطوعة موسيقية بعنوان: “جسور موسيقية إلى سيول” أداها بالعود بمشاركة العازفة الكورية على الهيجوم، ويؤكد الحاضرون أن الجمهور الكوري كان مأخوذاً بالتجربة ومعجباً بها.
الشاهد في هذا الحديث هو أن الموسيقى يمكن أن تكون لغة تفاهم عالمية لا تحتاج إلى كثير من الخطب والخطط الإعلامية والمناورات السياسية، فهي بشكلها المجرد قادرة على النفاذ إلى القلوب شرط أن يتم التأكيد على حسن التنفيذ وإجادته.
ويمكن هنا ضرب الكثير من الأمثلة التي عبرت فيها الموسيقى كل الحدود الجغرافية والسياسية والثقافية لتنتشر عبر القارات، ففي العالم العربي معروف أن موسيقى محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وآخرون اقتبست كثيراً من الموسيقى العالمية بعد أن تم تكييفها لتناسب الذائقة العربية، وكذلك فعل الرحابنة الذين نقلوا ألحاناً متكاملة من مصادر أجنبية وركبوا عليها كلمات شاعرية ما زلنا نرددها مع صوت فيروز الساحر. وفي الرياض وجدة استمع الجمهور السعودي باستمتاع للموسيقى الكلاسيكية من الأوركسترا اليابانية ومن عازف البيانو الهنغاري الشهير بوغاني، وكذلك الحال في احتفالات موسم طنطورة بالعلا وأخيراً مع حفلة أوركسترا لاسكالا الإيطالية التي نظمتها وزارة الثقافة بالرياض.
ومن المؤكد أننا لسنا استثناء من شعوب العالم، فلدينا كنوز من الأنغام الفريدة التي تنتظر من يصنفها ويعيد ترتيبها وتوزيعها أوركسترالياً ليتم تقديمها للعالم بالدرجة نفسها من الرقي، وهذه الأنغام قد نجدها في سحبة الربابة أو شيلات السامري أو دانة الحجاز أو صوت النهام البحري، لكنها تنتظر أن تدرس بشكل علمي أكاديمي أولاً حتى توضع في قوالب تستمع إليها شعوب الأرض.
ولست أرى هذا اليوم بعيداً مع الخطة الطموحة التي تتبناها وزارة الثقافة، والتي بدأت ملامحها تتبدى على الأرض، بعد إنشاء الفرقة الوطنية للموسيقى وبدء خطوات التأسيس لأكاديمية الموسيقى.
العود سيقود كتيبة من القوة الناعمة السعودية التي ستقدم وجهاً جديداً لم يعرفه العالم عنا بوضوح بعد.. ومن المؤكد أن هذه الكتيبة اللحنية لن تنتظرني حتى أتعلم العزف.
سلطان البازعي
نقلاً عن (الاقتصادية)