التغير المناخي من العلم إلى دهاليز السياسة
انعاكسات قضايا التغير المناخي على صراعات السياسة الدولية
تزامن تبني المملكة رؤية 2030 التي من أهدافها خفض اعتمادها على النفط بشكل كبير، مع التداول العالمي لقضية تغير المناخ والمؤتمرات الدولية الأخيرة المتعلقة بهذا الشأن، وهو ما قد يساعد السعودية على الابتعاد عن أكبر مصدر طاقة مسبب للانبعاثات الضارة؛ فالمملكة تهدف إلى خفض انبعاثات الكربون السنوية لتصل إلى 130 مليون طن بحلول عام 2030م عبر الاستثمار في مشروعات الطاقة المتجددة، بما في ذلك مشاريع الطاقة الشمسية.
وتلتزم السعودية بدورها في مواجهة مشكلة التغير المناخي، بجانب التزامها بتلبية احتياجات العالم من الطاقة عبر التحول التدريجي نحو مستقبل بيئي أكثر استدامة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التحول يجب أن يظل مجديا من الناحية الاقتصادية ومستداما من الناحية البيئية في الوقت ذاته. وفي إطار البحث عن بدائل للطاقة تكون صديقة للبيئة انضمت المملكة إلى عضوية المنتدى القيادي لعزل الكربون منذ عام 2005م، كما انضمت إلى مبادرة الميثان العالمية في 2013م، وتشارك بفاعلية في مبادرة الأربع مملكات لالتقاط الكربون وتخزينه «المملكة المتحدة، هولندا، النرويج، السعودية».
ومع دخول قضية تغير المناخ الأجندات السياسة، ستكون الدول – ومنها السعودية- أمام ضغوط ومسؤوليات من ناحية مواجهة خطر حقيقي أثبتته الدراسات العلمية ويتحالف المجتمع الدولي لحله، وفق تقرير خاص صدر حديثاً عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بعنوان: “التغير المناخي من العلم إلى دهاليز السياسة” للباحثة عهود اللامي، حيث ترى الباحثة أن الأمر يتطلب مزيدا من إشراك الإدارات المحلية وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني تماشيا مع توجه الأمم المتحدة المعلن للمؤتمر القادم للعام 2019م، إضافة إلى مواجهة ورقة ضغط سياسية، خاصة الدول المصدرة للنفط، وهو ما قد يطرح ضرورة مواجهة الضغوط الدولية بتقوية التكتلات مع الدول ذات الهم المشترك؛ من حيث تقليل الانبعاثات، أو المشاركة وتلقي الدعم لمواجهة تغير المناخ.
وتندرج الحلول المطروحة لمواجهة تغير المناخ بشكل عام تحت فئتين: التخفيف من حدة التغير المناخي عبر خفض معدلات انبعاثات الغازات الضارة، وهي من مسؤولية الدولة. أما الفئة الثانية فهي التكيُّف وإنشاء تجهيزات متقدّمة لمساعدة البشرية على التكيُّف مع آثار التغيُّر المناخي، وهذا الحل يقع على عاتق الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني بدعم الدولة عبر إقناع البشر بإحداث تغيير في أسلوب حياتهم الحالي وحثّهم على إعادة تقييم وتقدير البيئة التي يعيشون فيها.
ويرى التقرير الخاصّ الصادر عن مركز الملك فيصل للبحوث، أن الإدارات المحلية لها أهمية في حلّ مشكلة التغير المناخي؛ فبحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقوم الإدارات المحلية بما يقرب من 70% من الإجراءات اللازمة للحد من أضرار التغيُّر المناخي، و 90% من الإجراءات اللازمة لمساعدة المواطنين على التكيُّف مع الآثار المترتبة عليه. وأيضًا المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني التي أصبحت تؤدي دورًا مهمًّا على الصعيد الدولي، بكونها تهدف وتسعى إلى تحقيق اتصال فعّال بين الأفراد والجماعات على المستوى الدولي.
ويحدّد أهم أسباب تعذُّر الوصول لحلول تناسب الدول النامية من جهة والدول المتقدّمة من جهة أخرى في قضية تغير المناخ؛ في تمسك الدول النامية بمبدأ مسؤوليات مشتركة لكنها متباينة، ومطالبتها الدولَ المتقدمة بالدعم المالي والتكنولوجي لها، ودعوة الدول المتقدمة للدول النامية الصاعدة كالصين والهند بتحمُّل المزيد من المسؤولية المتعلقة بالتكاليف المادية والفنية لمواجهة ارتفاع درجة حرارة الأرض، بجانب نمط التفاوض متعدد الأطراف الذي يشمل غالبًا 196 دولة في المؤتمرات المعنيّة باتفاقيات تغيُّر المناخ ويؤدي لتضارب المصالح واستخدام الدول المتقدمة لنفوذها السياسي، وفقدان الثقة بين الطرفين.
وأدى الاهتمام السياسي بقضية تغير المناخ وإسهام قوى الضغط من الأحزاب والمنظمات المهتمة بالبيئة؛ إلى عقد اتفاقية كيوتو عام 1997م، التي تمثّل خطوة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي، وهي معاهدة دوليّة تنصُّ على التزامات قانونية للحد من انبعاث عدد الغازات التي تنتجها الدول الصناعية وتتسبّب بشكل كبير في تغير المناخ؛ حيث تم تحديد مدة زمنية من عام 2008م حتى عام 2012م، وقامت 38 دولة في تلك الفترة بتخفيض انبعاثات الغازات. وفي عام 2016م تم توقيع اتفاقية في نيويورك للتخفيف من الانبعاثات المسببة لتغيير المناخ، وأيّدت المملكة الاتفاقية بشكل رسمي حينها، ولكن في منتصف عام 2017م أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية، فيما عُقد نهاية 2018م مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ في كاتوفيتسا ببولندا لتنفيذ الاتفاقية والموافقة على بدء برنامج العمل بها. وأيضًا في كل عام كانت تُعقد قمة تغيّر المناخ برعاية الأمم المتحدة؛ حيث مرّت هذه المؤتمرات بمخاضات صعبة للخروج بتوصيات تضمن الالتزام بتقليل الانبعاثات المسبّبة للتغيير المناخي، مع عدم الإضرار بالمصالح الاقتصادية للدول.
وتولّد تصادم وتجاذب بين العلم والسياسة في قضية التغيُّر المناخي؛ نتيجة اختلاف الأهداف والقواعد بين المجالين، فأصبحنا نرى أحزابًا جعلت البيئة ساحتها ومنبرها السياسي، وأخذت تضخّم الحقائق لمصلحتها، في مقابل تهوين خصومهم من المشكلات البيئية لخدمة مصالحهم. ولكن هذا التجاذب والاستخدام السياسي لقضية تغيُّر المناخ؛ انتقل من كونه محصورًا بين الأحزاب السياسية، إلى مستوى أكبر بين الدول؛ خاصة الدول الصناعية والدول النامية.
وأصبح الجدل السياسي والاقتصادي والعلمي حول تغير المناخ حاضرًا أيضًا في قضايا التنمية وخطاب التنمية العالمي، بسبب أن البلدان النامية سيقع على عاتقها عبء معظم آثار تغير المناخ؛ لذا على البلدان المتقدّمة أن تخفض ما يصدر عنها من انبعاثات، وأن تتحمّل مسؤولياتها تجاه دعم الدول النامية ماديًّا وتقنيًّا لمواجهة هذا الخطر.
يشار إلى أنه من أكثر القضايا العالمية التي بدأت تأخذ حيّزًا في التداول العام والتداول السياسي: قضايا حماية البيئة، خاصة قضية تغيُّر المناخ؛ وبسبب هذه القضية نشهد لأول مرة صراع العلم مع السياسة بشكل مباشر. وتثير معالجة تغير المناخ نزاعات سياسية قوية؛ لأن الحلول المطروحة لتفادي تغيُّر المناخ تتطلّب الحدّ من بعض الأنشطة المنتجة اقتصاديًّا، ومثل هذه التغييرات مكلفة؛ حيث يطرح العلماء أن السبب الرئيس في تغير المناخ هو حرق الوقود «النفط – الغاز- الفحم» لإنتاج الطاقة، وهذا الوقود يشكّل 80% من إمدادات الطاقة في العالم.
ولم تجذب قضايا تغيُّر المناخ اهتمام السياسيين بشكل كبير إلا في الثمانينيات حينما ارتفعت درجات الحرارة في أمريكا لدرجات غير مسبوقة؛ كما أن توقف الحروب وانخفاض وتيرة الثورات الشعبية قد يكون من الأسباب التي جذبت اهتمام السياسيين لقضية التغير المناخي، كذلك كان الاهتمام وقتها واسعًا على مستوى شعبي وصحفي بهذه القضية.