كلمة حق صنعت باطلاً
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
قال الخوارج: “أن الحكم إلا لله”، فقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: “هي كلمة حق أريد بها باطل”.
ومنذ ذلك التاريخ والمسلمون مبتلون بكثير من كلمات الحق التي يراد بها باطل وصنعت الكثير من الباطل أوله انشقاق المسلمين إلى فرقتين سنية وشيعية، مع أن علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين وآل البيت رضي الله عنهم جميعاً لم يكونوا شيعة، ولم يطالبوا بأن يكون لهم شيعة تشق صفوف المسلمين، ثم أن السنة انقسموا بين أربعة مذاهب رئيسة، بينما أن أصحاب هذه المذاهب كلهم لم يدعوا لإقامة هذه المذاهب، فلم يكن أحمد بن حنبل حنبلياً، ولا الشافعي كان شافعياً ولا مالك كان مالكياً ولا أبو حنيفة كان حنفياً ولم يزعموا ذلك في يوم من الأيام، بل كلهم كانوا مسلمين وأصحاب مدارس في الفقه اجتهدوا بها ولم يأخذ أحدهم على الآخر اختلافه معه.
وكما قال العلامة السيد علي الأمين في حوار تلفزيوني مع الصحافي أحمد عدنان فإن الحكام في عصور وأقطار مختلفة اختاروا بعض الآراء الفقهية لهذا الإمام أو ذاك في القضاء وأحكام المعاملات واعتمدوها فأصبحت مذاهب وهويات صغرى فصلت المسلمين بشكل حدي حتى أنك تسمع تحذيراً شديداً من مغبة التنقل بين المذاهب في اختيار الأحكام والفتيا.
والمشكلة ليست هنا، فمن الطبيعي أن يوجد مثل هذا الخلاف لو أنه اقتصر على مسائل الزواج والطلاق وحدود العورة للرجل والمرأة، لكنه وصل إلى تفريق الجماعة والتكفير ثم الاحتراب أحياناً، والمشكلة الأدهى أنه أشغل المسلمين في جدليات طويلة حول تفاصيل ليست في صلب العقيدة والإيمان وعلاقة الإنسان بربه، وقامت مؤسسات أكاديمية وأبحاث علمية تدور في فلك هذه التفاصيل الثانوية حول إسبال الثوب وإعفاء اللحية وما ينقض الطهارة، بينما التقطت الأمم الأخرى قصبة السباق وحققت إنجازات أفادت البشرية وضمنت لها التفوق الحضاري، في الوقت الذي تقسم فيه العالم الإسلامي إلى دويلات وقعت تحت أنظمة حكم لا علاقة لها بالتنمية ولا بإعمار الأرض.
وكان يمكن لشعار مثل شعار “الصحوة” أن يكون ملائماً لاستنهاض همم المسلمين للالتفات لتخلفهم الحضاري، ولتحقيق فهم صحيح للآية الكريمة “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ” (الأنفال 60).
لكن الصحوة كانت هي الأخرى “كلمة حق أريد بها باطل”، مثلها مثل كل الحركات السياسية في التاريخ الإسلامي، تعطي شعارات براقة تجمع بها الأتباع المتحمسين الذين هم مثل الغريق في وحل الهزيمة الحضارية وتعطيهم قشة شعارات الجهاد ومحاربة المشركين والانقلاب على الحكومات وتحرير فلسطين، تماماً مثل شعارات الأحزاب الاشتراكية والبعثية والقومية، بينما هم لا يملكون من وسائل القوة إلا الخطب والتحريض، ولا يقدمون مشروعاً حضارياً حقيقياً. حتى السلاح الذي يحرضون أتباعهم على حمله لا يصنعونه ولا يتحكمون بوسائل تطويره وإنما يحصلون عليه من جهات مشبوهة تماماً مثل عصابات تهريب وترويج المخدرات.
ولأن الهدف هنا سياسي وهو الوصول إلى السلطة، فإن هذه الحركات، ومنها “الصحوة”، تستخدم كل ما يخطر على البال من ألاعيب السياسة غير الشريفة، وأولها مبدأ “فرق تسد”. وذلك عن طريق تصنيف المجتمع إلى موالين تحت جناحها، ومعارضين يتم تطبيق مبدأ اغتيال الشخصية بحقهم عن طريق تكفيرهم بوضعهم تحت تصنيفات “الحداثة” و”الليبيرالية” و”العلمانية” و”موالاة الغرب” وصولاً إلى التكفير.
كما أن الحركة أضفت هالة من الحصانة والقدسية على رموزها وقادتها باعتبارهم ينضوون تحت غطاء المؤسسة الدينية، ويتم تقديمهم على أنهم علماء لا يجوز المساس بهم إذ إن “لحوم العلماء مسمومة” كما يزعمون، ويحيطون أنفسهم بالأتباع والمريدين كالزعماء السياسيين، ويحرصون على مظاهر معينة في اللباس والحركة والحديث، ولا يتورعون عن إبداء مظاهر الثراء البعيدة كل البعد عن زهد العلماء، ويسارعون إلى حماية من يتعرض للهجوم حتى ولو كان انكشف في فضيحة أخلاقية أو علمية أو تناقضات في الادعاءات التي تتضمنها خطبهم وكتاباتهم. وتجدهم يبرعون في صناعة النجوم والمؤثرين حتى أولئك الذين لا نتاج علمياً لهم يبرر هذه النجومية والتأثير تماماً مثل نجوم وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام. فقد صنعوا كهنوتاً خاصاً بهم.
وقد ناقشت أحدهم مرة، وقلت له: إنني أخشى على الإسلام مما تفعلون به، لأنه يشبه ما فعلته الكنيسة في أوروبا حين ضيقت الخناق على حياة الناس وسيطرت على مقاليد الحياة الاجتماعية والسياسية حتى ثارت الشعوب وظهرت العلمانية التي أعادت الرهبان والقساوسة إلى صوامعهم وكنائسهم وعزلتهم عن التأثير في الحياة العامة.
الإسلام هو دين للتقدم والنماء وإعمار الأرض، لكن ليس على أيدي هؤلاء المتعطشين للسلطة والساعين لإلغاء كل من خالفهم.
سلطان البازعي
نقلاً عن (الحياة)