في مواجهة دمار الإرهاب… ابحثوا عن بقع الضوء
بعد كثير من الخيبات الحضارية التي لم يكن آخرها أحداث ونتائج “الربيع العربي”، بدأ لدي نمط في تجنب الكثير من نشرات الأخبار لسبب رئيس هو تجنب زيادة المخزون السلبي والحفاظ على ما أمكن من الطاقة الإيجابية، بل أني أحاول قدر ما أستطيع بث الإيجابية في ما أحاور به أو ما أكتبه. وبما أني وصلت من العمر إلى ما يصفه البعض بـ”المرحلة الملكية” لم أعد أهتم كثيراً بمن يتهمني بالسلبية أو التعالي على هموم الناس ومآسيهم.
الحقيقة أنني أبحث عن الخبر الإيجابي كما أبحث عن قطعة شوكولاتة في يوم كئيب، سعياً وراء زيادة إفراز هرمون الأندروفين في الدماغ، وهو المعروف بهرمون السعادة، وهذا لا يقوم بدور تخديري وإنما هو يساعدك على تجاوز الكآبة والمضي في يومك أكثر قدرة على العطاء لنفسك وللآخرين. كنت أتجنب التفاصيل المؤلمة في الأخبار وأكتفي بمعرفة عناوينها الرئيسة، وأبحث في ركام الحزن عن ابتسامة طفل يقاوم بها بؤسه وجوعه وبرده، وأقتنع أن هذا الطفل سيقاوم ويصنع لنفسه ولبلاده مستقبلاً أفضل بمثل هذه الابتسامة النابتة من رحم المأساة، وأظن أن على مراقبي الأحداث أن يفعلوا ذلك ضمن سعيهم في شرح ما يجري على ساحتنا العربية.
وبهذه الروح ذهبت لزيارة معرض “مدن دمرها الإرهاب”، وهو معرض تستضيفه وزارة الثقافة السعودية بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس، عن حجم الدمار الذي خلفه الإرهاب في أربع مدن تاريخية عربية هي على التوالي: الموصل في العراق وتدمر وحلب في سورية ولبدة الكبرى في ليبيا، وأظن أن ظني لم يخب.
المنطقة العربية كانت دائماً مهبط الديانات السماوية التي بعث بها الله عز وجل لهداية البشرية، وفيها ظهر الرسل والأنبياء عليهم السلام، وبهذا فهي كانت مصدر التنوير للعالم كله، كما أنها كانت على مر عصورها أنموذج التسامح والتعايش بين أتباع كل هذه الديانات وصولاً إلى عصر الإسلام، فقد كان في هدي الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ما يشير بوضوح إلى هذه المبادئ السماوية السامية، وليس من قبيل المصادفة أن جيوش الفتح الإسلامي التي طافت العالم القديم من شرقه إلى غربه ناقلة تعاليم الإسلام لم يذكر التاريخ عنها أنها هدمت معبداً أو حطمت رمزاً دينياً لأي طائفة دينية سماوية كانت أم غير ذلك، علماً أن معظم هذه الآثار لم تكن مطمورة تحت الرمال وإنما كانت ظاهرة للعيان كأهرام الفراعنة المصريين ومعابد الرومان والإغريق وغيرهم من الأمم.
المعرض القائم حالياً في المتحف الوطني بالرياض يقدم للزائر تجربة فريدة في عرض صور تفاعلية للآثار المهدمة وبنائها بطريقة افتراضية، باستخدام تقنيات حديثة تعطي الزائر صورة لما كانت عليه قبل الغزو الهمجي لمن ينسبون أنفسهم زوراً للإسلام. هذه التقنيات تمكنت من رفع الركام المتناثر على الأرض للأعمدة والأسقف إلى موضعها الطبيعي، ووصلت ما انقطع من الجسور الحجرية القديمة.
سيشاهد الزائر معابد رومانية ويهودية وكنائس مسيحية ومساجد وجوامع صمدت بألوانها الزاهية وعمارتها المبهرة عبر كل الأزمان حتى جاء هذا الزمن الرديء الذي انطلقت فيه هذه “النبتات الشيطانية” لتسمم الأجواء وتقتل البشر وتهدم الحجر.
قبر النبي يونس عليه السلام في نينوى والمسجد حوله دنس وهدم، وكذا الجامع الأموي العتيق في حلب التي هدمت ونهبت أسواقها العتيقة، المسارح الرومانية في تدمر أصبحت حجاراً متناثرة، وكاتدرائية رائعة البناء في لبدة الكبرى في ليبيا إلى جانب معابد ومسارح رومانية تحولت إلى ركام. والثابت أن نواة من أقاموا هذه الجماعات المتطرفة كانوا ضيوفاً في سجون العراق وسورية، وفجأة مع تداعيات سقوط نظام صدام حسين والثورة التي قامت في سورية، فتحت أبواب السجون لهم وانطلقوا إلى الفلوات حيث جاءهم المال والعتاد والرعاية من قوى محلية وإقليمية ودولية ليعيثوا في الأرض فساداً ويمهدوا الطريق للتدخلات الإقليمية والدولية.
وكما طبيعة المتاحف والعروض المرئية التفاعلية، فإن القاعة كانت خافتة الضوء، لكنك ببساطة ستجد الكثير من بقع الضوء، ستجدها أولاً في شهادات بعض شهود العيان من أبناء هذه المدن العربية الأربع، ممن عايشوا الأحداث وقاموا بجهود مضنية للحفاظ على تراثهم العظيم، حتى أن بعضهم تعرض للسجن والتعذيب على أيدي الإرهابيين.
وستجدها في حماسة أدلاء المعرض من الشابات والشبان السعوديين الذين يستقبلونك بالترحاب فور دخولك إلى القاعة الفسيحة، ويقدمون لك المعلومة عن محتويات العروض ببساطة واحترافية وتمكن، حتى أنني سألت شابة تدرس في الجامعة وتطوعت للعمل في المعرض عن رأيها في من قام بكل هذا الدمار، قالت بتأثر: “لا أستطيع أن أجد الكلمات المناسبة لوصف الجريمة”.
وعندما تخرج من قاعة العرض ستجد الكثير من الضوء في تخت موسيقي شامي يقدم ألحاناً ومعزوفات تؤكد استمرار الحياة، كما ستجده في ابتسامة شاب سوري نبيل يحييك وهو يحمل على ظهره إبريقاً نحاسياً مزخرفاً وطويلاً، فينحني لكي يتدفق من فم “المصب” عصير التوت البارد يقدمه لك وهو يقول: “نورتنا”.
سلطان البازعي
نقلاً عن (الحياة)