الدواعش المحبطون: الإرهاب المخذول في السعودية
لا يبدو «تنظيم داعش» الذي يحاول الانبعاث من مرقده في مناطق التوتر؛ مخذولاً كما هو في السعودية بفضل الاستراتيجية الاستباقية لأجهزة الأمن السعودية بمختلف تشكيلاتها، ومنها وزارة الداخلية، ورئاسة أمن الدولة اللتان أحبطتا مجدداً عملية إرهابية فاشلة في الزلفي أول من أمس. ورغم تبني «تنظيم داعش» للعملية ونشره للفيديو الذي يقدم فيه أربعة شبان لم يتجاوزوا العشرين ربيعاً بيعة للبغدادي في سردابه؛ فإن ذلك بدا واضحاً كنوع من تحول كبير يعيشه التنظيم عقب هزيمته في مناطق التوتر، ودعوته أنصاره عبر الكثير من المؤسسات الإعلامية التابعة له، وهي سلاحه اليوم إلى اتباع استراتيجية «الصبر»، وهو ما يعني في قاموس «داعش» الانتقال من حلم الخلافة المزعومة إلى العودة مجدداً إلى استقطاب الكوادر، وإيقاظ الخلايا النائمة، وبعث الذئاب المنفردة لتحاول القيام بأي عملية ولو لم تكن نوعية، أو كان منفذوها من الهواة الواقعين تحت تأثير ما يسمى في علم دراسات الإرهاب «الفكرة المسيطرة»، وذلك بهدف محاولة إثبات الوجود عبر الانتحار الجسدي للأفراد، والانتحار الجمعي لتنظيم يقوم على فكرة «التضحوية» لإبقاء خرافة «التمدد».
الفيديو الذي صوره المنفذون على عجل وببدائية شديدة يعكس أن التنظيم رغم استهدافه المتكرر للسعودية، وكلنا يتذكر الفيديو الذي نشرته وزارة إعلام «داعش» في 2015 والذي اعتبر فيه أن استهداف المملكة أكثر مكاسب التنظيم، فإنه بعد عملية الزلفي بدا الغائب غير المنتظر وتنظيمه مخذولاً عن تحقيق أي نجاح خصوصاً في السعودية التي تعلمت «درس الإرهاب» بشكل يفوق الكثير من الدول حول العالم التي لا تزال تعاني من ملامسة تلك الاستباقية الأمنية التي يجب أن نشعر بالفخر حيالها، ونقدر الجهود الأمنية الكبيرة.
لا يزال بيان رئاسة أمن الدولة قيد الإعداد، بحسب المتحدث الرسمي الذي تحدث في بيانه الأولي عن العثور على أسلحة ومواد متفجرة، كما أن الفيديو الذي سارعت أذرع التنظيم على شبكة الإنترنت إلى نشره وتبنيه، يشير إلى أن الخلية خططت للعملية في توقيت لم يأت مصادفة أو عرضياً، فيوم 21 أبريل (نيسان) في ذاكرة السعوديين، هو ذكرى تفجير الوشم على يد كتائب الحرمين التابعة لتنظيم «القاعدة»، المنافس الأساسي لـ«تنظيم داعش» والمتخلف عنه على مستوى الشرق الأوسط، وإنْ كان متفوقاً في مناطق أخرى كدول أفريقيا شمالها وشرقها، في إشارة إلى رغبة «داعش» إلى استهدافه للسعودية كتأكيد على الوجود من جهة، ومحاولة في كبح جماح عودة تنظيم «القاعدة» الذي يحاول إعادة تجديد هويّته من خلال حمزة بن لادن الذي نشأ في كنف دولة ملالي طهران، قبل أن يخرج للعلن وعبر سلسلة – وليس مصادفة أيضاً – للهجوم على السعودية التي قلت غير مرة إنها تمثل مصدر «تسويق» لخرائبها، لكونها ممثلة للإسلام المعتدل الذي يتسابق المتطرفون المسلحون والمسيّسون في عدائه.
ورغم احتفالات الكثير من الدول المشاركة في الحرب العالمية على الإرهاب بانتهاء «داعش»، ظلت السعودية على موقفها الثابت، بأن الإرهاب معضلة طويلة الأمد، والحرب ضد التطرف معركة أبدية كما صرح الراحل المغفور له الملك عبد الله، فالكمون الظاهري للتنظيمات الإرهابية، ومنها «داعش» لا يعبر إلا عن تحوّل مرحلي لمنظومة الإرهاب بالغة التعقيد، هذه المنظومة تتطور وتجدد ذاتها، كلما بقيت مضخات إنتاجها الفكرية وخزاناتها التمويلية، إضافة إلى المناخ السياسي المضطرب في عالم اليوم الذي تصّر كثير من دوله على التعامل مع الإرهاب بشكل متحيّز وبنظرة محدودة جعلت الكثير من قضايا المنطقة المؤثرة في حالة الإرهاب ومنسوبه العنفي عالقة إلى أجل غير مسمّى.
ما تقوله حادثة الزلفي الفاشلة إن الدواعش محبطون جداً، وإنهم مخذولون في السعودية التي تتعامل مع الإرهاب والعنف دون تمييز طائفي أو جهوي حتى لو كان منفذوه من أبنائها الذين اعتنقوا أفكاراً متطرفة، لكن ما تقوله أيضاً إن استراتيجية «تنظيم داعش»، وهي التي تروج لها أدبياته المنشورة في منصّاته الإعلامية تقوم على فك الارتباط مع مركزية دولة الخلافة المزعومة، والانتقال إلى استراتيجية التمدد غير الجغرافي.
والحال أن محاولة فهم دوافع الانتحاريين تبقى قضية مؤرقة، بحاجة إلى المزيد من مراكز الأبحاث المتخصصة التي تجمع خبراء في علم نفس الجريمة، والاجتماع السياسي، وحفريّات الخطابات السائدة التي تحاول مقاربة إقدام مراهق على الانتحار لصالح قضية متوهمة وهو أول من يدرك أنه لن يعيش حتى يشاهد نتائج فعلته وقبوله بأن يكون مجرد وقود لمعارك التنظيمات، على الرغم من أن تلك الجماعات لا تعمل وفق ذلك المنطق الفوضوي للانتحاري المحبط، وإنما من خلال استراتيجيات متنوعة للتمدد والبقاء والانكماش وإعادة الانتشار.
إرهاب اليوم انتقل من ردة الفعل لـ«الجهاديين» الأوائل ضمن فهم مشوه للنصرة إلى منظومة عمل وفق خطط استراتيجية تكرس مستويات كثيرة أهمها: تقويض مفهوم الدولة الحديثة، واستبدال فكرة الخلافة التي تحظى بقبول أطياف من الإسلام السياسي أيضاً بها.
ورغم تفّوق الاستراتيجية الأمنية لا نزال بحاجة إلى الكثير من الجهود لمكافحة وصول صوت التنظيم وتغريداته ومخرجاته البصرية والحديثة إلى الأجيال الشابّة التي يركز التنظيم على استهدافها، فجزء كبير من قدرة «داعش» على التعبئة، ناتجة عن هويّته التي يقدمها كتنظيم مراهق يجمع بين الوحشية والكوادر الهواة الغارقين في التقنية ومخرجاتها الإعلامية، من المجلات باللغات العالمية، والفيديوهات، والتصاميم، والمقاطع الصوتية، والأهازيج التي تحاكي أساليب الشباب العصري «راب الجهاد» كمثال، على عكس «القاعدة» التي تستند إلى إرث يعبر عن تأصيل العنف عبر الفتاوى والرموز والتأصيل الكلامي.
خلاصة القول: الحرب على الإرهاب ومكافحة العنف أبعد من استهداف تنظيم هنا وهناك… هي معركة الشر المنظم الذي يستغل نوازع العنف التي تعد أسوأ نزعات النفس البشرية الأكثر غموضاً.
يوسف الديني
نقلاً عن (الشرق الأوسط)