ما الذي تبقى من مهنة الصحافة؟
عزيزي الإنسان الصحفي. أنا مثلك، تعلمت في الجامعة أن قوة الصحفي تكمن في قوة مصادره وتعددها، وأن الصحفي الماهر هو من يسبق الجميع على رأس النبع، ليأتي للجمهور بخبر حصري. وقد حاولت خلال سنوات عملي الأولى أن أبني شبكة معارف ومصادر، تميّزني عن بقية زملائي الصحفيين، تتيح لي احتكار المعلومة وسرعة نقلها للمشاهدين.
لكني اكتشفت أن تغييراً جذرياً طرأ على هذه المهنة ومفاتيح القوة فيها، وذلك بعد أن أطلت وسائل التواصل الاجتماعي برأسها، ثم ما لبثت أن اقتحمت مجال الصحافة بشكل عام.
قبل نحو خمسة أعوام، تحدثت عن ظاهرة الصحفي المواطن، وبعدها اشتق مصطلح “صحافة المواطن” الذي يرمز إلى تحوّل المواطن العادي إلى صحفي منافس، بعد أن صار يمتلك وسيلة التوثيق، وهي الهاتف الذكي، ووسيلة العرض أيضاً، وهي منصات التواصل الاجتماعي.
وقتها تحدثت عن وسيلتين للحفاظ على المهنة، وعدم التفريط بها لصالح المواطن العادي، وهي المصداقية والدقة في نقل المعلومة، والعمق في طرح القصة، وهذه أشياء لا يجيدها المواطن الصحفي، بينما انتهى أمر حصرية المعلومة وسرعتها.
منذ خمسة أعوام تقريباً، خسر الصحفي ميزة “السرعة” في نقل المعلومة، و”حصرية المعلومة”، لم تعد هذه مفاتيح تميز الصحفي عن أقرانه، فصار هو وأقرانه يتنافسون على ثوان معدودة مع مئات المجموعات الإخبارية على “واتسآب” أو بقية منصات التواصل، فالخبر المهم ينتشر في ظرف ثوان ويصل للجمهور، قبل أن تصل أنت إلى رئيس تحريرك لتبلغه عن الخبر، في كثيرٍ من الأحايين.
سأخبرك عن ظاهرة جديدة تمثل ضربة جديدة للعمل الصحفي، وخصوصاً في مجال المصداقية والدقة، إنها ظاهرة “السياسي الصحفي” وقد يشتق منها مستقبلاً مصطلح “صحافة السياسيين”. أصبح لكل سياسي منصة عرض خاصة به، حساب على فيس بوك وآخر على تويتر، وأصبح السياسي يجيد استخدام الأسئلة الخمسة، لصياغة خبر ما، وربما يرفقه بصورة أيضاً، ولم يعد السياسي بحاجة إلى صحفي لكي يتواصل مع الجمهور، بل صار يتواصل هو مع الجمهور بشكل مباشر، ولعل الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحساباته الشخصية لأكبر دليل على ذلك.
تكمن المشكلة في هذه الظاهرة أن الدقة والمصداقية لا تتقاطع أبداً والعمل السياسي، فالسياسي شخص مراوغ، عادة لا يتحدث بصدق، ولا يعطي معلومة كاملة، وقد يتعمد نشر معلومات مغلوطة لغاية في نفسه.
مؤخراً، سقط عشرات الصحفيين في فخ السياسيين، ونقلوا معلومات مغلوطة عن صفحاتهم بشأن تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، ونقلوا أسماء وقوائم، وتبين بعد ذلك أن السياسيين استخدموا الصحفيين كأداة لقياس رد فعل الجمهور، أو للترويج لبعض الشخصيات.
قنوات تلفزيونية كبرى ووكالات أخبار عالمية وقعت في حرج كبير، بسبب أنها نقلت عن سياسي خبراً، تبين لاحقاً أنه غير دقيق، حتى بات الأمر عادياً.
وكالة أنباء محترمة تنقل خبراً عن مصدر ما، وفي اليوم التالي تنقل عكسه تماماً عن مصدر آخر. وذلك لا يفقد من مصداقية الوكالة شيئاً، فالمدارس الصحفية قديماً تحدثت عن احتمال فقدان المصداقية في ظل عدد محصور من وكالات الأنباء وجمهور قليل الخيارات، أما في وقتنا الحالي، فالجمهور يتعامل مع الأخبار كوجبة يومية متعددة المصادر مختلفة الفائدة، ويتفهم الجمهور أن وكالة إخبارية أوردت في الصباح خبراً مغلوطاً وفي المساء صححته، أو العكس. والغريب أن الجمهور يستمر في اعتماده على هذه الوكالة كمصدر للأخبار، ولكن ما السبب؟
السبب أن قوة الصحفي أو المحطة الإخبارية لم تعد مختزلة في سرعة نقل الخبر، أو دقته، وإنما في طريقة وشكل عرض الخبر.
إن الشكل الفني والتقني لعرض المعلومة أو الخبر والعمق في التحليل أشياء ما زال يفتقدها “المواطن الصحفي” و”السياسي الصحفي”.
قد يسبقك زميلك الصحفي في نقل المعلومة أو القصة بدقائق، ولكن إن تمكنت من نقل ذات المعلومة وإخراجها للجمهور بشكل تقني وفني مبدع، وإن تمكنت من إعطاء تحليل أعمق للخبر الذي يتناقله الجميع، فذلك هو رصيدك الآن كصحفي ماهر، وذلك ما سيميزك عن الآخرين.
عبد الحفيظ جعوان