هل نحن قادرون على التسامح؟
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
النقاش الذي دار الأسبوع قبل الماضي حول زيارة البابا فرانسيس لدولة الإمارات العربية المتحدة، كشف الكثير عن الطريقة التي ينظر بها بعض المسلمين للآخر المختلف، وهذه النظرة تتسم بكثير من التناقض واللاواقعية في أحيان كثيرة، والأسوأ أن البعض يلوي الحقائق وربما يكذب أو يصدق الكذب من أجل أن يعزز وجهة نظره في رفض الآخرين.
ومن الضروري التأكيد على صيغة «التبعيض» هنا، ذلك أن الأغلبية الصامتة قد لا تتفق بالضرورة مع الذين ملأوا وسائل الإعلام التقليدي والاجتماعي بالصراخ والاحتجاجات على هذه الزيارة وفتحوا لذلك الكثير من الملفات القديمة والجديدة، واستخدموا لغة تشعر معها بأن الإسلام في خطر ولا بد من إعلان الجهاد للدفاع عنه.
ومن الضروري أيضاً التأكيد على مجموعة من الحقائق كمدخل لمناقشة هذه الحالة.
الأولى أن الإسلام كعقيدة قوي ولا يؤثر فيه الاتصال والتحاور مع أي مجموعة دينية كانت، بينما أن هذا «البعض» يفكر بطريقة أن المسلم إذا رأى صليباً فإنه قد يتنصر فكيف إذا زار كنيسة أو تحاور مع رجل دين مسيحي، والحقيقة أن الحالات القليلة والشاذة التي شهدنا فيها ارتداد مسلم واعتناقه لديانة أخرى، تكتشف أن لدى هذا المرتد خللاً واضحاً في منظومة التفكير لديه، إذ إن من يعرف البساطة التي يقدم بها الإسلام علاقة المخلوق بخالقة يصعب أن يقتنع بالتراكيب المعقدة لدى الديانات الأخرى وخصوصاً التي يسيطر عليها الكهنوت ومن يرتدون مسوح رجال الدين.
الحقيقة الثانية هي أن المسلمين هم الآن في أضعف حالاتهم حضارياً، وأنهم لا زالوا يعتمدون على الآخر المسيحي واليهودي في الغرب والبوذي والشنتو في الشرق في كل احتياجاتهم المعيشية، بدءاً من الثياب التي يلبسونها إلى الدواء الذي يتعالجون به ومروراً بالهواتف النقالة التي يغردون منها، وأنهم سيبقون لعقود طويلة بحاجة لاكتساب المعرفة من هذا الآخر الذي يحرمون الحوار معه.
والحقيقة الثالثة وهي الأكثر أهمية هنا، هي أن الإسلام بالفعل هو دين التسامح والحوار والتعايش، ولو أن هذا «البعض» من المسلمين قرأ بوعي سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لعرفوا أنه بالاعتراف بالآخر واحترام مبادئ التعايش معه استطاع كسب القلوب ونشر دعوة الإسلام.
والحقيقة الرابعة التي يجب التأكيد عليها، هي أن الحوار مع الآخر لا يعني بالضرورة نقل القناعات بين الطرفين، وأنه لو كان الحوار قائماً على هذا الأساس فإن في الإسلام من قوة المنطق والعقلانية ما يرجح كفته شرط أن يكون المحاور متمكناً من مادته، لكنه -أي هذا الحوار- يقوم على أساس التفاهمات التي تعزز العيش المشترك بين البشر، وإنهاء حالة الشك والريبة التي ينظر بها العالم للمسلمين بسبب من أفعال بعضهم السلبية. لذا، فإن من الحكمة، والتي هي ضالة المؤمن، أن تفتح قنوات الحوار مع أهم الديانات ذات التأثير في العالم وخاصة الفاتيكان، إذ إن البابا الذي يرأس الكنيسة الكاثوليكية يتبع له أكثر من 1.2 بليون حول العالم، له عليهم سلطة روحية حتى مع انتشار العلمانية واللادينية.
وللمملكة أسبقية في فتح قنوات الحوار مع الفاتيكان يعود تاريخها إلى عام 1972 حينما وافق الملك فيصل -رحمه الله- على طلب مجموعة من المفكرين الأوروبيين بمشاركة من الفاتيكان لزيارتها ومناقشة علمائها حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان، وبالفعل عقدت ندوة في الرياض في شهر آذار (مارس) من ذلك العام شارك فيها من الجانب السعودي مجموعة من العلماء منهم المشايخ محمد الحركان وراشد بن خنين ومحمد بن جبير وعبدالعزيز المسند وآخرون، انتهت بتصريح رئيس الوفد الأوروبي ماك برايد بقوله: «من هنا، ومن هذا البلد الإسلامي، يجب أن تعلن حقوق الإنسان، لا من غيره من البلدان، وإنه يتوجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقائق المجهولة عند الرأي العام العالمي، والتي كان الجهل بها سبباً لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي، عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين».
وفي عام 1974 استقبل الملك فيصل مبعوثاً من البابا بولس السادس الذي حمل رسالة منه تضمنت دعوة لوفد من العلماء السعوديين لزيارة الفاتيكان، وبالفعل تمت الزيارة، إذ ترأس الوفد الشيخ محمد الحركان وزير العدل آنذاك والتقى مع البابا كما اجتمع مع مجلس الكنائس العالمي.
وغني عن القول بأن الملك عبدالله بن عبدالعزيز هو صاحب دعوة الحوار بين الأديان وهو أول ملك سعودي يزور الفاتيكان ويلتقي بالبابا بنديكتوس السادس عشر، كما أن دعوته والمؤتمر الذي عقد في مدريد برئاسته نتج عنه إنشاء منظمة دولية للحوار مقرها فيينا.
والملك سلمان استقبل العام الماضي رئيس المجلس البابوي للحوار ما بين الأديان الكاردينال جان لوي توران الذي زار المملكة بدعوة خاصة، كما أن وفداً سعودياً رفيعاً زار الفاتيكان في العام 2017 ونقل رسالة تقدير من المملكة للبابا على مواقفه التي تدعو إلى السلام والتعايش وترفض الربط بين الأديان والإرهاب.
الغريب أننا نردد عبارة «سماحة الإسلام» بل إننا نعطي لقب «سماحة» لصاحب أعلى مرتبة علمية في الفتوى والعلم الشرعي، ولكننا ربما نسقط عند أقرب محاولة لممارسة هذه السماحة، حتى ان أحد أصحاب السماحة قال في فتوى مذاعة وتم تداولها كثيراً هذه الأيام ان من يدعو للحوار مع النصارى أو اليهود هم من «طغاة الأرض»، ومضى يفصل في أن المسيحية واليهودية هي ديانات محرفة ودخلت فيها الشركيات، وأنه يحرم التقارب معها لأن في ذلك اعتراف بصحة ما هم عليه، والأمر غير ذلك تماماً.
سلطان البازعي
نقلاً عن (الحياة)