فنزويلا ساحة جديدة للاستقطاب الدولى
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
شكلت فنزويلا ساحة جديدة للاستقطاب والصراع الدولى, خاصة بين القوى الكبرى, فالولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون دعموا خطوة رئيس البرلمان خوان جوايدو الذى أعلن نفسه رئيسا بالوكالة، وأعلنوا اعترافهم الرسمى به, فى المقابل دعمت روسيا والصين الرئيس مادورو، وهو ما زاد الأزمة تعقيدا. والواقع أن الأزمة الفنزويلية والمواقف الدولية منها تثير العديد من الدلالات المهمة:
أولا: أن الانخراط الدولى فى الأزمة الفنزويلية هو أحد مظاهر الصراع والتنافس بين القوى الكبرى على تشكيل بنية وهيكل النظام الدولى, ما بين الولايات المتحدة التى تريد الإبقاء على سيطرتها وتكريس النظام أحادى القطبية, وما بين روسيا والصين اللتين تسعيان لتكريس النظام الدولى متعدد الأقطاب, ولذلك أخذت ملامح هذا الصراع تتمثل فى انخراط القوى الكبرى فى الصراعات والحروب والأزمات داخل الدول والتى باتت تمثل المصدر الرئيسى لتهديد الأمن والسلم الدوليين بعد تراجع الحروب بين الدول والتى كانت إحدى سمات الحرب الباردة, وتحول الاستقطاب الدولى من شكل الحرب بالوكالة ودعم دولة ضد أخرى حليفة للطرف المنافس, إلى دعم طرف ضد آخر داخل الدولة الواحدة، وهو ما جسدته الأزمات المتعددة، سواء فيما عرف بالثورات البرتقالية فى أوكرانيا وجورجيا أو فيما عرف بالربيع العربى كما هو الحال فى سوريا وليبيا وغيرها.
ثانيا: إن الاستقطاب الدولى وتدخل الأطراف الخارجية فى الأزمات داخل الدول هو لاعتبارات مصلحية واقتصادية وليست أيديولوجية كما كان إبان الحرب الباردة عندما كان المعسكر الرأسمالى يواجه المعسكر الاشتراكى, ولذلك فإن امتلاك فنزويلا ربع الاحتياطى العالمى من النفط جعلها محط اهتمام وانخراط الأطراف الدولية فى الأزمة, كما أن الموقف الروسى المؤيد للرئيس مادورو ينبع من العلاقات العسكرية والاقتصادية القوية مع نظامه ومبيعات الأسلحة الروسية بمليارات الدولارات لفنزويلا، كما أن الصين دائنة لفنزويلا بــ60 مليار، دولار ولذلك اتخذت موقفا داعما لمادورو حفاظا على مصالحها وديونها, وفى سعى أمريكا إلى تعظيم نفوذها ومصالحها الاقتصادية فى هذا المجال, فرغم أنها المستورد الرئيسى للنفط الفنزويلى فإنه لا توجد شركات أمريكية عاملة فى إنتاج النفط فى فنزويلا.
ثالثا: الأزمة الفنزويلية كغيرها من الأزمات والحروب والصراعات داخل الدول يتم التعامل معها من قبل الأطراف والقوى الدولية خارج ساحة مجلس الأمن الدولى بسبب اعتبارات الفيتو واستخدامه من جانب الدول الكبرى، خاصة أمريكا وروسيا والصين لإجهاض أى مشروع أو بيان لا يتوافق مع مصالح أى منها، وقد أدى ذلك إلى عجز مجلس الأمن عن أداء دوره فى حفظ السلم والأمن الدوليين, وهو ما يدفع فى اتجاه ضرورة إصلاح المجلس، سواء فى نظام العضوية أو فى نظام الفيتو, وبالفعل فشل المجلس فى التعامل مع الوضع فى فنزويلا بسبب التنافس الأمريكى الروسى، حيث اتخذت الأطراف المختلفة، سواء الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مواقف سياسية واقتصادية داعمة لجوايدو, بينما قدمت روسيا والصين أيضا الدعم السياسى والمالى لمادورو.
رابعا: أن تجربة الأزمات السابقة فى أوكرانيا وسوريا وليبيا والعراق وغيرها أثبتت أن التدخل الخارجى، خاصة من جانب القوى الكبرى كان عاملا سلبيا وأدى إلى تعقد تلك الأزمات وإطالة أمدها وتعثر التوصل إلى حلول سياسية توافقية دائمة بشأنها وتحولت لأزمات مفتوحة بلا نهاية أو أفق محدد للحل, فالاستقطاب الخارجى زاد من تغذية الاستقطاب الداخلى بين الأطراف المتصارعة فى الأزمة, وفى حالة فنزويلا يراهن جوايدو على أوراق عديدة فى دعم موقفه أبرزها الدعم الخارجى له, كما أن مادورو يعتمد على الدعم الروسى والصين كإحدى أوراق مواجهة خصومه.
خامسا: إن الأزمات داخل الدول غالبا ما تدار بمنطق المباراة الصفرية, أى وجود فائز وخاسر, بينما تجربة الأزمات والحروب والصراعات, كما فى سوريا وليبيا والصومال وأوكرانيا وغيرها, أثبتت أن الكل خاسر، وأن الشعوب هى الخاسر الأكبر، سواء فى مقتل وتشريد الملايين، أو فى تدمير البنية الأساسية, ومن ثم فإن إدارة الأزمة الداخلية تتطلب المرونة والتنازلات من جانب الأطراف المختلفة للتوصل إلى صيغة توافقية تحقق الحد الأدنى من مصالح كل الأطراف ووفقا لاعتبارات الانحياز إلى المصلحة العامة, ولذلك فإن تمترس أطراف الأزمة الفنزويلية فى مواقفهم سوف يزيد من تعقد الأزمة وإطالة أمدها وربما يدفعها لأن تأخذ منحنى باتجاه سيناريوهات خطيرة، خاصة فى ظل الاستقطاب الدولى الذى يغذى الاستقطاب الداخلى, والخشية أن تخرج الأمور عن السيطرة فى فنزويلا مع تصاعد حدة الانقسام وتفاقم وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
سادسا: أوضحت تجربة الأزمات والحروب داخل الدول أنه غالبا ما يتم استخدام مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسى كمظلة للتدخل يكون ظاهرها الرحمة, بينما باطنها العذاب لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية فى إطار لعبة المصالح بين القوى الكبرى, وهذه أيضا أحد أبرز ملامح النظام الدولى الحالى, والتى تثير إشكالية التغيير السياسى وهل يكون من الداخل أم من الخارج؟ وحدود هذا التدخل ومدى تعارضه مع مفهوم السيادة. ولذلك تمثل الأزمة الفنزويلية اختبارا جديدا للنظام الدولى الذى يتشكل هيكله ومبادئه حاليا.
د. أحمد سيد أحمد
نقلاً عن (الأهرام المصرية)