بومبيو وإعادة تأهيل قطر
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
لا يمكن فصل زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن التحول الجذري للسياسة الخارجية في المنطقة، بعد الانسحاب الكبير والرهان على الخروج من المستنقع السوري، بهدف ترتيب الأوضاع والعودة مجدداً وفق تحالف عربي وخليجي كبير تقوده السعودية، وبأهداف محددة وواضحة: إيران أولاً.
ما أوصله وزير الخارجية بوضوح في زيارته الخليجية، هو إعادة رسم نزاعات المنطقة في صورتها المكبرة؛ حيث تقف إيران منتجةً ومصدرةً للإرهاب، وحاضنةً للجماعات المسلحة والتنظيمات المتطرفة؛ سُنِّيها قبل شِيعيِّها. كما أكد أيضاً موقف الولايات المتحدة الثابت من التنظيمات المتطرفة، وثالثاً تأكيدها على دعم الاستقرار في دول المنطقة، كأولوية تتقدم على مسألتي الحريات والديمقراطية.
هذه الرسائل الثلاث تعني أن مشروع الولايات المتحدة اليوم هو إعادة تأهيل حلف سُني عربي، وبالتالي إعادة تأهيل دولة قطر التي تتقاطع أجندتها وآيديولوجيتها السياسية مع الأفكار الثلاث، فهي حليفة إيران، ودولة – قناة الظل لنظام الملالي، كما أنها لا تزال تحتضن وتدعم رموز التطرف، وعبر قناتها الدولة تسوِّق لخطاب الإرهاب والتحريض ضد استقرار الدول.
في الجهة المقابلة، تواجه السعودية اليوم، والخليج معها، تحديات كبيرة وغير مسبوقة؛ حيث تسعى المملكة جاهدة إلى فرض أولويتها في المرحلة المقبلة، المتمثلة في تدعيم الاستقرار السياسي على أنقاض التحولات الكبرى في ملف الإرهاب ومكافحة العنف، ونبذ كل دعوات التثوير السياسي، وهو ما يعكس سياسة الحزم التي أطلقها الملك سلمان في أكثر من اتجاه، بدأت بـ«عاصفة الحزم»، وصولاً إلى الحرب الشرسة ضد منابع الإرهاب والتطرف، وصولاً إلى حماية الداخل من الاستهداف.
هناك تحول كبير يجري في بنية المشهد الخليجي، ليس فقط على مستوى السياسات العامة التي تمسك بزمامها الدول، ولكنه تحول على مستوى مكونات المجتمع الخليجي السياسية والاجتماعية، بسبب تحول جذري وراديكالي في مصادر التلقي والخطابات السائدة؛ أولاً هناك تراجع للإسلام السياسي وخطاب الصحوة لصالح خطابات منسلَّة جديدة، تحمل «هويَّة» سياسية مركبة وغير متجانسة، فهي من خلفيات صحوية في تكوينها الثقافي؛ لكنها متجاوزة للمقولات المؤسسة كالحاكمية ودولة الخلافة وشعار تطبيق الشريعة… إلخ، ومن هنا وقعت في فخ «الإحلال» غير الواعي، فاستبدلت بالخلافة دولة القانون، وبالكاسيت والمنابر حسابات «تويتر» و«السوشيال ميديا»، واستبدلت بالأسر التنظيمية الشبابية والمنشورات، الهاشتاغ والغروبات الإلكترونية التي ترسل المحتوى ذاته بتكنيك وآليات الحشد القديمة نفسها، وهو ما جعل المشهد برمته يختلط فيه الحابل بالنابل، السياسي بالديني بالحقوقي بالراديكالي، وصولاً إلى منافسة تيارات عنفية تقتطع لها حصَّة جديدة من كعكة «الإعلام الجديد».
هذه الأجواء الجديدة كانت ستبدو صحِّية لو كانت المنافسة عادلة على مستوى الفرص والتكتلات ومعقولية الخطاب؛ لكنها تأتي في سياق ما بعد «الربيع» والظلال القاتمة التي ألقاها على عدة مناحٍ، أهمها: تبدل المفاهيم حول الدولة والسلطة والأداء الحكومي من جهة، وتبدل في أولويات الخطابات الجديدة، من عزل مفاهيم إسلاموية لا مكان لها في سوق الديمقراطية اليوم، والوقوع في مأزق «الإحلال المفاهيمي» وقطع الصلة عن السياقات الفكرية والاجتماعية، التي ولدت فيها مفاهيم المجتمع المدني والديمقراطية والتعددية السياسية والحريّات… إلخ.
والحال أن اللاعبين على الساحة السياسية اليوم استفادوا من درس ما حدث في مناطق التوتر، من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا، وهو إدراك خطورة الفراغ السياسي، واللعب على السيادة والمغامرات غير المحسوبة لاستهداف الاستقرار. وصحيح أن معايير النجاح والفشل لا يزال الحكم عليها مبكراً، بسبب السعي إلى تعزيز السيطرة على الأرض، وليس التحول إلى كتلة سياسية متجانسة لها صوت بحاجة إلى تمثيل، ولا تزال ملفات عالقة، كملف الأكراد في سوريا والعراق والحدود التركية والرغبة في التحول إلى دولة، أو ملف الميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من نظام طهران، ومدى عودتها إلى منطق الدولة العراقية المستقلة عن أي إملاءات خارجية، إلا أنه يتوقع أن درس ما أحدثته جماعات الإرهاب من «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما، إضافة إلى تدخلات الميليشيات الشيعية وما يفعله «حزب الله» من تغول في الدولة اللبنانية، سيساهم في قطع الطريق على كل الخطابات الثورية ذات المضامين والشعارات السياسية البرَّاقة، التي استثمرت فيها وتحولت معها دولة تقودها قناة لا تنتمي إلى الواقع، بقدر أنها تمارس وصايتها لتمرير آيديولوجيتها الخاصة.
هناك تحالف وثيق يشبه العناق الحميم بين المؤدلجين السياسيين ومنتجي التطرف وخطاب الكراهية اليوم، بدعوى محاربة الأنظمة القمعية أو حكم العسكر، كما قيل في أيام الثورات، فمنطقة الشرق الأوسط الآن فقدت منطقها، وأصبحت مسرحاً للعبث واللامعقول من الأفكار والمواقف السياسية، التي ستأخذ آثارها سنوات طويلة تفوق حجماً وتأثيراً سنوات النكبة والنكسة وحربي الخليج، وحتى ارتدادات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والحال أن الوضع متاح لمزيد من الاستثمار والانتفاع أمام تجار الأزمات وحالة اللااستقرار، الذين ترتفع حناجرهم الآن يضغطون على دول الخليج المستقرة، بينما يتعامون عن قول أي كلمة أو تسجيل موقف تجاه كل الانتهاكات التي تحدث في الدول المؤيدة للإسلام السياسي والخطاب الأصولي.
البداية في إعادة تأهيل قطر ودمجها في المشروع الجديد لاستقرار المنطقة، وكلمة الفصل بالطبع في «الرياض»!
يوسف الديني
نقلاً عن (الشرق الأوسط)