«إجو تا يسهروا عنَّا»..
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
«اليوم كان قلبي بيدق.. بيدق.. صرت أقول يا ليتني كنت عصفور يا ليتني كنت شجرة يا ريت برجع عالبيت.. أنا بدي إمي، ما بدي غني، فا عذورنا إذا كنا شوي ملبكين.. هلأ بيمشي الحال».
وبالطبع.. مشي الحال حالما تجاوزت رهبة المكان و«هيبة» الجمع كما وصفته، فأبدعت وسلطنت واستجابت لحماس الجمهور لجملة من أعذب أغانيها، ترافقها فرقة أوركسترا رائعة يقودها المايسترو لبنان بعلبكي ملأت موسيقاها المكان ورددته الجبال المحيطة.
ماجدة الرومي سيدة نبيلة الجمال شفافة الحديث وقورة الأنوثة، تقدم فناً راقياً لا مكان فيه للابتذال الاستهلاكي ولا مخاطبة الغرائز، تمتلك على المسرح حضوراً لا يضاهيه إلا وقفة السيدة فيروز، لكنها في ذلك المساء وقفت أمام جمهور مهرجان «شتاء طنطورة» مثل تلميذة تعتذر لارتباكها مما وصفته بأصعب حفلة. تذكرت تلك الصبية الرقيقة ذات الصوت الأوبرالي الجديد على الأذن العربية، والتي شكلت مفاجأة للجمهور العربي حينما ظهرت عليهم لأول مرة في 1976 في فيلم «عودة الابن الضال» للمخرج الراحل يوسف شاهين، ولما صدح صوتها بأغنية «مفترق الطرق»، في مسرح المرايا الذي احتضنته جبال العلا مساء الجمعة الماضي، تأكدت الصورة فقد كانت هي نفس الصبية إنما عاملت العقود ملامحها الوسيمة برفق ولم تمس شيئاً من روحها الشفافة.
بعفوية وصدق وجهت ماجدة الرومي تحية للسعوديين ولبلادهم، متمنية أن تبقى هذه الأرض الطيبة «عاصمة للخير، وأن تبقى دارها دار العز وسيوفها سيوف النصر، وأن تبقى نخيلها مراوح للزمن، وأن تبقى الأبية البهية العربية العزيزة على قلوبنا جميعاً.. يدوم عزكم»، هكذا قالت ولم يفتها في مواضع أخرى أن تعبّر بحياء لطيف عن عرفانها للاستقبال الذي حظيت به، وأنها لا تعرف كيف يمكن أن ترد الجميل، وهذا موقف إنساني مثقف أصيل لم تكن ملزمة به لولا حسها الرفيع وأدبها الجم.
ليلة ماجدة الرومي في مهرجان «شتاء طنطورة» على جمالها لم تكن كل الحكاية، فقد سبقها فنان العرب محمد عبده، الذي غنى كما لم يغنِّ من قبل على ذمة من حضروا حفلته وأنا أصدقهم، وستلحقها باقة من الأحداث الفنية الراقية هي على التوالي: عازف الكمان الفرنسي رينو كابوسون، ثم الموسيقار المصري عمر خيرت، وعازف البيانو الأوركسترالي الصيني لانج لانج، ثم تقف الأسطورة أم كلثوم عبر التصوير التجسيمي (الهولوغرام) على مسرح المرايا ليستعيد محبوها أجمل أغانيها الخالدة، ثم المطرب الإيطالي أندريا بوتشيلي، ويختم أمسيات المهرجان المطرب اليوناني الأشهر ياني في منتصف شهر (فبراير). وتترافق مع هذه الحفلات في كل أسبوع مجموعة من الفعاليات المبتكرة، تضمن للزائر قدراً كبيراً من المتعة البصرية والفكرية، خاصة وأنها تترافق مع زيارة واحدة من أهم المواقع الأثرية في الجزيرة العربية وهي مدائن صالح، والتجول في المناطق المحيطة بالعلا حيث التكوينات الصخرية الباهرة الجمال.
وأيضاً فإن «شتاء طنطورة» ليس كل الحكاية، المهرجان كما أكد لي وزير الثقافة محافظ الهيئة الملكية لمحافظة العلا الأمير بدر بن عبدالله الفرحان، هو البداية في نسخته لهذا العام لنسخ أخرى ستتوالى في كل عام، وأنه يأتي ضمن رؤية شاملة لتطوير المنطقة، حتى تتواكب عمليات التنمية فيها مع قيام المشاريع الكبرى المحيطة بها، وهي: مشروع البحر الأحمر، ومشروع «نيوم»، وذلك باستثمار الميزات النسبية الكبيرة التي تمتلكها المحافظة لتقديم سياحة ثقافية وبيئية متفردة.
ويقول الأمير: «العلا كنزٌ مكنون.. وهديةٌ جميلة نشاركها من مملكتنا الحبيبة مع العالم وللعالم».
والحقيقة أن الكثيرين – مثلي- يحتاجون إلى زيارة للمكان للاقتناع بصواب الرؤية النافذة التي أنشأت الهيئة الملكية لمحافظة العلا، هؤلاء سيقنعهم الوقوف أمام عظمة التاريخ المتمثل في الكنوز الأثرية لوادي الحجر، وسيقنعهم الجمال البيئي الفريد للمنطقة، وستقنعهم الفرحة الملتمعة في عيون شبان وشابات المحافظة، الذين يرون أن العلا لقيت أخيراً ما تستحقه من اهتمام. وحتى لا نظن أن «الهيئة» هي مجرد جهاز بيروقراطي آخر أضيف لأجهزة الدولة، فيكفي أن نعرف أن عملها لم يقتصر على تهيئة المواقع الأثرية وتفعيل أعمال التنقيب الأثري بمشاركة فرق علمية عالمية أو تطوير الاستثمار السياحي والفندقي، وإنما بدأت بالاهتمام بالإنسان لتهيئته للتعامل مع اقتصاد مختلف تماماً، فقد بدأت الهيئة بالفعل بابتعاث المئات من شبان وشابات المحافظة لدراسة اختصاصات متعددة من الآثار إلى الزراعة ومروراً بصناعة الضيافة، وبعض هؤلاء شاهدناهم في مواقع العمل يرشدون الزوار بحماس وشغف.. شبان وشابات متعددو اللغات يعرفون تاريخهم ويحكونه للناس بحب.
وهكذا.. فإن العلا «جوهرة التاريخ» ستكون مستعدة بدءاً من 2020 لاستقبال زوارها من جميع أنحاء العالم، لتقدم لهم سياحة ثقافية بيئية نظيفة وبأعلى درجات الجودة.
وبالعودة إلى أمسية السيدة ماجدة الرومي التي اعتادت أن تتحدث بالمحكية اللبنانية، واستوحيت بتأثيرها صياغة عنوان هذه المقالة وهو يقول: «أتوا ليسهروا عندنا».
والذين أتوا هم من النخبة اللبنانية. سياسيون ومثقفون وفنانون وإعلاميون. حملتهم من بيروت طائرتان، وهم من كل الطوائف والتوجهات، صاغ توليفتهم سفيرنا النشط نبيل بخاري. جاءوا من بيروت، في موسم الأعياد والسهرات، ليس فقط ليستمعوا إلى ماجدة الرومي، وإنما ليطلعوا على الكنوز الثقافية والأثرية لهذه المنطقة السعودية. وربما كانت الرسالة الأهم التي وصلت لهم هي أن المملكة العربية السعودية هي مع لبنان، كل لبنان وعلى مسافة واحدة من الجميع.
شاهدتهم يرتدون معاطفهم ويخرجون من المسرح إلى الفضاء الفسيح، ولا أعرف لماذا تذكرت مشهداً مشابهاً في الطائف قبل سنوات عدة، إنما هذه المرة كانت اللوحة ثقافية وفنية وسياحية ولا علاقة لها بالسياسة.
ورن صوت فيروز في داخلي:
سهار بعد سهار
تا يحرز المشوار
كتار هون زوار.. شوي وبيفلّوا
وعنّا الحلا كله، عنّا القمر بالدار
ورد وحكي وأشعار
بس سهار سهار
سلطان البازعي
نقلاً عن (الحياة)