بدأت بتشجيع الشباب السعوديين على العمل الحر ووصلت إلى استبدالهم بالعمالة الأجنبية
عربات الطعام من مفهوم الحاجة إلى مجرد الرفاهية
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
في أثناء زيارة إلى منزل أحد الأثرياء، فور الدخول لفت انتباهي وجود عربة طعام (Food Truck) في فناء المنزل، فكان أول ما سألته عنها، قال أن ولده أحب الفكرة ومارسها، ثم توقف عنها. وفي أكثر من مرة أشاهد عربات طعام أمام بعض المنازل في بعض الأحياء الراقية التي توحي مباشرة بثراء أصحابها، أو على الأقل عدم حاجتهم إلى عربة لتحسين دخلهم. فهل أصحاب عربات الطعام بحاجة إليها؟ وهل تخدم هذه العربات المستهلك الفعلي لها؟
أمام محطة قطارات الأنفاق ويمبلدن في لندن “اعتاد سائقو التكسيات والمتأخرون عن عشائهم ليلا أن يتزودوا بالهمبرغر والهوت دوق وما يلزمهما من عربة طعام متنقلة تفد إلى هذه الزاوية من الطريق مساء كل يوم، وتخدم الجوعى والعطشى والسكارى من عابري السبيل حتى مطلع الفجر”. تذكرت هذه العبارة من قصة لندنية للكاتب خالد القشطيني، وهو يشير ربما إلى الهدف من عربات الطعام وطبيعة عمل أصحابها ونوعية المستهلكين، وهو المفهوم المختلف تماما عن عربات الطعام في السعودية.
تاريخيا بدأت فكرة عربة الطعام في الجنوب الأميركي أواخر القرن التاسع عشر، ثم تطورت شيئا فشيئا حتى أصبحت بهذا الشكل الذي نراه اليوم، واشتهرت في بداياتها بخدمة الطبقة الكادحة من العمال ومحدودي الدخل في مواقع البناء والمصانع في المدن الأميركية الكبيرة مثل نيويورك، وسيلة للحصول على طعام جاهز سريع ورخيص مثل سندويتشات الهمبرجر والبطاطس المقلية، ومنذ السبعينيات الميلادية أضافت الآيسكريم والدونات المحلاة بالسكر إلى قائمتها. وصارت أكثر تخصصا في الطعام وتختلف عن بعضها بعض في أنواع الطعام، وحتى في أشكالها وأحجامها، ودخلت برامج الطبخ التلفزيونية، وصار لها مهرجاناتها السنوية في بعض الدول مثل بلجيكا.
هذه أسباب نشأتها، ورغم الركود الاقتصادي وتلاشي أعمال البناء والمصانع، ظهرت أسباب جديدة لازدهارها واستمرارها وفي أميركا على سبيل المثال وجد بعض الطهاة فيها عملا جيدا بعد البطالة وفقدان وظائفهم في المطاعم والفنادق، وفي بريطانيا مثلا اشتهرت غالبا بخدمة الناس مساء وفي وقت متأخر من الليل حتى الفجر لمرتادي الحانات والأندية الليلية ولسائقي سيارات الأجرة “التكسيات” وللموظفين والمسافرين، ولكن في السنوات الأخيرة انتشرت كثيرا خلال النهار في العواصم الأوروبية لتقديم المثلجات والعصائر والحلويات مثل فطائر الشكولاته مع القهوة كبديل سريع وأقل ثمنا من المقاهي ومحلات الحلويات، وخاصة في الأماكن السياحية والحدائق والمكتظة بالسكان.
ولم تصل عربات الطعام إلى السعودية حتى عام 2016م عندما أطلق أحد محبي الطهي مشروعه من الشارع هربا من ارتفاع الإيجارات، ولم يمض وقت طويل منذ ذلك الحين إلى اليوم الحالي حتى أصبحت ظاهرة “فوضوية” وانتشرت العربات في كل مكان وأصبح بإمكان أي شخص بيع سندويتشات اللحم والدجاج والحلويات في الشارع بعد الحصول على ترخيص بسهولة، ولم تقتصر الفكرة على إنعاش العاطلين عن العمل، بل شملت حتى الموظفين والطلاب الذين أطلقوا العمالقة المحبوسين بداخلهم من خلال عربات الطعام ليلا، الأمر الذي جعل من هذه الظاهرة أشبه ما تكون بـ “الموضة” وليس البحث عن عمل أو مصدر دخل بشكل فعلي، وهو ما شكل من هذا العمل مشروعا غير مربحا بسبب انفجاره في كل مكان وبشكل عشوائي.
كثرت الشكايات على أصحاب هذه العربات، بسبب المبالغات بالسعر الذي ينافس أسعار المطاعم والمقاهي أو يتجاوزها أحيانا، لأن ارتفاع السعر يتناقض تماما مع المفهوم التاريخي وحتى المعاصر لعربة الطعام في العواصم الغربية القائم على الطعام السريع رخيص الثمن، وهذا هو سر الاختلاف بين العربات في السعودية وبين مثيلاتها في دول العالم، التي اشتهرت بذلك منذ إنشائها لأول مرة ومرورا بجميع مراحل تطورها، أيضا هناك اختلاف آخر وهو أن أصحاب عربات الطعام في دول كثيرة ليس لهم عمل سوى الطهي في العربة بدوام كامل أو شبه كامل بسبب الحاجة الماسة، بينما في السعودية تطغى عليها الهواية والموضة والترفيه، وعندما انتشرت الظاهرة في السعودية بدأت فكرتها الأولية بدعم وتشجيع الشباب العاطلين أو الراغبين بهذا العمل، ولكن بعد انتشارها بهذا الشكل العشوائي ودخول كثير من الشباب فيها حتى من أبناء الأثرياء الذي أسسوا عربتاهم الفاخرة تماشيا مع المثل الشعبي (مع الخيل يا شقراء)، وبعد فترة ليست طويلة وبسبب انشغال كثير من هؤلاء الشباب بوظائفهم الرئيسية أو الدراسة أوالعائلة وربما بسبب الملل والأجواء غير المناسبة، باتت عربات الطعام مكانا لتوظيف العمالة الوافدة الرخيصة بسبب توقف بعض أصحابها السعوديين، لأنهم أصحاب نفس قصير وربما يرونها غير لائقة اجتماعية واقتصاديا كعمل ثابت ومستمر.
تكلف العربة الواحدة ما بين 30 ألف ريال و 70 ألف ريال وتصل تكاليف بعضها إلى 90 ألف ريال، وهو الأمر الذي يفسر ارتفاع أسعار عروضها طمعا في تعويض رأس المال بشكل سريع، إضافة إلى توظيف العمال الذي بات واضحا في عربات كثيرة من أجل العمل يوميا وتعويض رأس المال.
ومما يفسر القول بأنها “موضة وسوف تنتهي هو أن بعضها لا يعمل يوميا، بل بحسب مزاج مالكها، أحيانا بعد العصر، وأحيانا في الليل فقط، بمعنى أن الطبقة الحقيقية التي تحتاجها لن تثق بأوقات عمل العربات أو تعتاد على أماكنها، وخصصت البلديات أماكن لها في الرياض مثلا بجانب مكتبة الملك فهد أو في شمال الرياض في حي الصحافة، لكن هذا التخصيص جعل من المنطقة المحيطة بها مكانا مزدحما بالسيارات ومزعجا بسبب بعض الممارسات السيئة.
ويتسائل بعضهم لماذا يريد الناس في مدن مثل جدة والرياض أن يعتادوا العشاء ليلا من عربات الطعام الجديدة المنتشرة في الشوارع، والتي تقوم فكرتها على فئات قليلة من الناس، ويجيب بعضهم بأنها موضة وسوف تختفي شيئا فشيئا، لتكون مثل سيارات الآيسكريم.
انتشار عربات الطعام في السعودية، أبدا لم يمثل حاجة حقيقية قائمة على مفهومها الرئيسي لخدمة فئات محدودة من الناس، مثلا العمال في أماكن البناء والتعمير والمصانع كمركز الملك عبدالله المالي أو في المناطق الصناعية في جنوب الرياض أو صناعيات السيارات وغيرها، أو توزيعها على الحدائق العامة والمنتزهات الكثيرة، بل أعتقد أنها مجرد موجة اجتماعية- اقتصادية مثل موجات كثيرة، ونشاط سياحي بالدرجة الأولى لمجرد التغيير والترفيه وليس الحاجة.
بعض هذه العربات تحولت من مكان لمساعدة وتشجيع الشباب السعوديين ونساء بسطات الوجبات الخفيفة على العمل الحر إلى مكان للترفيه وتشغيل العمالة الأجنبية، وتحولت من هدف خدمة أماكن مهجورة تفتقد خدمات الطعام إلى خدمة أماكن لا تنقصها الخدمات، ولو أنها توزعت مثلا على جميع الحدائق في الرياض والصناعيات والمصانع والأسواق المفتوحة، وليس في مكان ترفيهي واحد لتحقق أحد أهدافها.
كثير من العربات معروض الآن للبيع بسبب ملل أو خسارة أو هجرة أصحابها الشباب الذين أطلقوها في بداية الأمر من أجل المتعة والتغيير وليس بسبب الحاجة أو البحث عن عمل، وقد أثروا سلبا على من هم بحاجة ماسة للعمل بهذه العربات وليس لهم دخل سواها، عربات الطعام تمثل سوقا واعدا، ولكن للأسف دخل فيه الباحثين عن المتعة والمظاهر، وبسبب دخول هذه الفئة تضرر الجادين والباحثين عن عمل يكفيهم ويغنيهم عن راتب الوظيفة.