ابن الفارض.. سلطان العاشقين الذي صنعته العزلة
قال عنه جبران خليل جبران: “لم يتناول من مجريات يومه كما فعل المتنبي، ولم تشغله معميات الحياة وأسرارها كما شغلت المعري، بل كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراء الدنيا، ويغلق أذنه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية”.
إنه الشاعر عمر بن الفارض، الذي لقب بـ«سلطان العاشقين» حيث كانت أغلب أشعاره في العشق الإلهي، لكن أسرارها كما يقول جبران ليست بسهلة التفكيك والإدراك، وحيث يقع بين مكانتي المتنبي والمعري.
كاهن الفكر
لئن وضع ابن الفارض (1181 ـ 1235م) في فئة شعراء التصوف، إلا أنه الرجل الذي تجاوز في شعره الحدود المعينة، فهو بحسب جبران “كاهن في هيكل الفكر المطلق.. أمير في دولة الخيال الواسع.. قائد في جيش المتصوفة العظيم”.
وُلد سلطان العاشقين في مصر، بعد أن هاجر والده إلى هناك، وعُرف بزهده، حيث قضى حوالي 15 سنة من عمره في عزلة عن الناس يتأمل أحوال نفسه ويمرح في الخيال البعيد وأسرار الملكوت.
عزلة في وادٍ
جاءت عزلته هذه بعد أن سافر لمكة وأدى فريضة الحج ومن ثم قرر الاعتزال في وادٍ بعيد عن الناس، وكانت تلك العزلة هي المنبع الذي خرجت منه معظم أشعاره، حيث أتاحت له التأمل العميق في الإلهيات وحب الخالق وفي تصاريف الأحوال في هذا الكون.
وبعد أن أنهى عزلته عاد إلى مصر مجددًا بذخيرة كبيرة من المعاني ودرر البيان، وعاش هناك إلى وفاته حيث دفن بجوار جبل المقطم في مسجده.
لماذا ابن الفارض؟
لقب “عمر بن أبي الحسن” المُكنى بـ “أبو حفص” و “أبوالقاسم” بـ “ابن الفارض” نسبة إلى والده حيث ذكر عمر (الابن) عن هذا اللقب: “نسبة إلى الفَارَض بفتح الفاء وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها ضاد معجمة، وهو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال”.
وهذا اللقب يعود إلى والده الذي كان يقوم بإثبات هذه الفروض فغلب عليه التلقيب بالفارض وعرف ابنه بابن الفارض، وقد كان والده من كبار علماء مصر في زمانه.
وتأثر عمر بتربية والده الذي كان قد رفض منصب قاضي القضاة، ورأى منذ الصغر هذا السلوك الزاهد عند أبيه فتأثر به وصار هذا عنوانًا لحياته صقله بالمعرفة والتأمل.
صورة عصره
غير أن مجمل صورة عصر ابن الفارض كانت تقوم على الزهد والتقشف من الطبقة العامة في المجتمع، حيث كان ذلك عصر انتقال من الدولة الفاطمية إلى الأيوبية.
وكان الناس يعانون من استبداد الحكام وظلمهم ومن ثم كانت الحروب الصليبية والعديد من المشاكل والبلايا كانتشار مرض الطاعون وانحسار النيل لسنوات.
وقيل إن سبب سفره للحجاز والعزلة هناك، جاء بإشارة من أحد معلميه وهو الشيخ أبو الحسن البقّال، الذي قال له إن الله سوف يفتح عليه إن ذهب إلى هناك، في مكة.
الحياة البدوية
يرى الباحثون أن أشعار ابن الفارض التي نظمها في الحجاز تنعكس فيها صور الحياة البدوية وتتردد في أبياته الصور الحجازية، فهو يتعرض للبرقع البدوي وأسماء الأماكن.
ورغم صيت ابن الفارض والاستلهام الذي شكله لدى أجيال من الشعراء المتصوفة، إلا أنه لم يعرف عنه سوى ديوان شعر واحد عدد أبياته 1850 بيتا شعريا، غير أنه يعد تحفة أدبية ناصعة البيان، غنية بالخيال وحيث يدور حول الحب الإلهي.