ترامب… الظاهرة

«كلام الرئيس يشعرني بالغثيان»… هكذا تحدث أنجس كينغ، وهو عضو الكونغرس الأميركي المستقل عن ولاية مين (Maine). الرئيس كان يتحدث في تجمّع انتخابي لمصلحة الجمهوريين في ولاية ميسيسبي في الوسط الأميركي، وكان يشير بتهكّم وسخرية إلى أجوبة كريستي فورد أمام لجنة استجواب داخل أروقة الكونغرس حول اتهامها مرشح ترامب لعضوية المحكمة العليا القاضي كافانوف، بأنه سبق أن تحرّش بها جنسياً في مرحلة الدراسة الثانوية.

قبل شهرين تقريباً وفي عقر دارهم، خاطب الرئيس ترامب قادة حلف شمال الأطلسي بنبرات حادة ونوع من الازدراء، وطالبهم بدفع مبالغ مالية معتبرة مقابل وجود الولايات المتحدة عبر عشرات القواعد العسكرية في أوروبا لحمايتها. وقبل ذلك، فعل الشيء نفسه مع كوريا الجنوبية ومع اليابان اللتين قبلتا المشاركة في تكاليف تشغيل القواعد العسكرية هناك كما فعل حلف الناتو.الرئيس ترامب رئيس تنفيذي، لكنه يفتقد الديبلوماسية المعتادة والمتوقعة من شخص بمكانته، والسبب أن هذه الوظيفة (رئاسة الولايات المتحدة) هي المهمة السياسية الأولى له في حياته. نعرف أن معظم رؤساء تلك الدولة تدرجوا في مهامهم السياسية من حكام لولايات أو أعضاء منتخبين في مجلسي الشيوخ والنواب حتى وصلوا إلى عتبات البيت الأبيض. ترامب انتقل رأساً من مكتبه التجاري في الجادة الخامسة من قلب نيويورك كمطور عقاري ومفاوض شرس أمام شركات التمويل وأيضاً أمام ملاك العقارات وشركات البناء لتوفير تكاليف الإنشاء، وبالتالي رفع هوامش الأرباح، ووجد نفسه في أكبر وأهم وظيفة في العالم، ولأنه فاز بأصوات الناخبين بسبب شعار «أميركا أولاً» الذي رفعه إبان حملته الانتخابية، بمعنى ألا شيء يقف أمام مصلحة أميركا، نجده يتحدث عن مصالح بلاده كما يتحدث رئيس شركة مع مقدم خدمة، أي بأساليب تفاوضية فجّة وقاسية هدفها جني الأرباح. على أن كل هذا الضجيج والجدل الذي يحدثه يخضع في النهاية للجلوس وجهاً لوجه. الجميع يدرك، سواء إدارة الرئيس أم خصومه، بأن الوصول الى أي اتفاق كنتيجة واقعة على الأرض لا يمكن تحقيقه بواسطة الخطب والتصاريح قبل التفاوض الجاد وتقديم بعض التنازلات من الطرفين.

لعلكم تتذكرون مقولته المتكررة في حملته الانتخابية حول السور الفاصل بين أميركا والمكسيك للحد من الهجرة غير الشرعية. كان يردد عبارة مهينة جداً للمكسيك بأنها، أي المكسيك، هي التي ستتكفل بتكاليف بناء السور. على أرض الواقع كما نعلم، لم توافق المكسيك على ذلك. ولا ننسى بالطبع الشريك الآخر لاتفاق نافتا بجانب المكسيك، وأقصد كندا عندما تلقى رئيس وزرائها جاستن ترودو تغريدة قاسية جداً من ترامب بعد دقائق من مغادرة الطرفين الاجتماع الذي ضمّهما، وكان الخلاف حول الرسوم الكندية المفروضة على المنتجات الزراعية الأميركية.

قبل أسبوع وعبر المنصة الانتخابية، بحيث يصطف المؤيدون ويقاطعون المتحدث بالتصفيق والصراخ، أشار الرئيس ترامب الى اتصاله الهاتفي مع الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز المتعلق بطلبه من الملك كبح جماح أسعار النفط عبر ضخ مزيد من البراميل لتعويض النقص الناجم عن مقاطعة إيران، من بين عوامل أخرى، تحدث الرئيس بفوقية وبعبارات لا تخلو من المبالغة وتعالى التصفيق والصراخ ورفع الأعلام، على رغم قوله أنه يحب السعودية، قال أنه طلب من المملكة العمل على رفع الإنتاج حتى يتمكن السعوديون من استخدام أسلحتهم وقواتهم الجوية التي زعم أن بلاده هي من تديرها وتشغلها وتنفق عليها، ذلك كله بالطبع غير صحيح، ولا يخفى على أصغر خبير نفط متابع أن المملكة ضد الارتفاع المبالغ فيه لسعر البرميل، لأنه يضرها على المدى البعيد وأنها تنتج بطاقتها القصوى هذه الأيام من دون أن يملي عليها أحد بذلك، كما لا يخفى على أي خبير عسكري مختص أن المملكة هي من تشغل ترسانتها العسكرية وتديرها.

من الجهة الأخرى وهذا هو الأهم والأخطر بنظري خلف هذه الظاهرة، لا بد أن ندرك أن هذا النوع من الخطاب «الشعبوي» هو الذي أوصله الى البيت الأبيض، كونه أخرج الكثير من المسكوت عنه داخل الولايات المتحدة. معظم مؤيدو ترامب هم من الأميركان المعارضين لقوانين الهجرة الحالية واستقبال اللاجئين وخروج المصانع الأميركية للخارج وميوعة النظام الأميركي في الكثير من السياسات الخارجية، خصوصاً في سنوات أوباما الثماني المنصرمة، هنا يرى البعض أنه يكرس للاختلاف داخل المجتمع الأميركي الذي هو في الأصل جماعات مهاجرة من شتى بقاع الأرض بألوان ومعتقدات ولغات مختلفة، مهاجمة المهاجرين الجدد وأعدادهم كبيرة تعتبر من المغامرات الخطرة التي لم يجرؤ أي رئيس سابق على تناولها بهذا الوضوح، أما الرئيس نفسه وكونه يطمح الى البقاء فترة رئاسية ثانية، وبالنظر الى النمو الكبير لاقتصاد بلاده، فإنه من غير المتوقع أن يغير أي شيء في هذا النهج انطلاقاً من مقولة «اللي تكسب به العب به».

لذلك، وبعيداً من احتفالات وشماتة بعض المفلسين في منطقتنا ممن يحاولون توظيف مفردات الرئيس ضد الخصوم، يشعر كثر من الأميركان بالفعل بوجود أخطار كبرى تهدد المجتمع الأميركي بالانقسام، قد لا يكون هذا الرئيس نفسه سببها في الأصل، لكن وجوده وإثارته المستمرة الجدل عندما يتناول هذا الموضوع حتماً، ساهما في تغذيتها وحدتها، عبّر عن ذلك بكثير من القلق الكاتب الشهير توماس فريدمان في مقالين له نشرتهما صحيفة النيويورك تايمز قبل يومين عنونهما بـ: «الحرب الأهلية الأميركية»، ما لم يشر إليه الكاتب في حقيقة الأمر هو الدور الأهم وغير المسبوق الذي تبنته كبريات وسائل الإعلام ضد الرئيس ترامب شخصياً بما فيها الصحيفة التي يكتب فيها. السواد الأعظم من وسائل الإعلام هناك نظم حملات إعلامية مناهضة للبيت الأبيض لم يسبق لها مثيل، كأن من يجلس في المكتب البيضاوي عدو لدود للأميركان على رغم نجاحاته المبهرة اقتصادياً، خصوصاً تدني نسبة البطالة. ذلك كله مقابل المؤيدين وهم كثر لكن بلا صوت لهم عبر هذه الوسائل وليس أمامهم إلا انتظار ردود الرئيس اللاذعة عبر تغريداته في منصة «تويتر».

في اعتقادي، أن هذا هو الخطر الذي يجب أن يثير قلق الشعب هناك والعالم على حد سواء، لا سيما حلفاء الولايات المتحدة. لا أعلم حقيقة هل تدرك وسائل الإعلام ودور الدراسات الاستراتيجية ومجالس الأمن الداخلي في الولايات المتحدة تبعات إشعال هذه الحرب الكلامية التي تزداد حدةً وتشوهاً وقسوةً وشخصنةً يوماً بعد يوم؟ تجاوز الاتحاد الأميركي منذ أن تأسس في العام ١٧٧٦ حربين عالميتين، وخاض حروباً متفرقة كانت حرب فيتنام هي الأصعب وتسببت وقتها في انقسام مشابه لما نتحدث عنه اليوم، لكن الرئيس نيكسون استطاع إطفاءها بخروجه من تلك الحرب. من يا ترى باستطاعته اليوم إعادة الثقة بين تيارات وطوائف وأعراق تلك الدولة العظمى وقد ازدادت وتفرعت؟ وهل هذا أصلاً ممكن؟

فهد الدغيثر

(الحياة)