الاعتذار الألماني.. ودلالاته
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
اعتذار الكبار في السياسة ليس تنازلاً عن مبدأ أو سيادة أو تقليلاً من شأن الدولة وعلاقاتها الخارجية، ولكنه يستدرك على صانع القرار أن الخطأ لا يحتمل المكابرة، أو المزايدة، أو حتى المساومة في البحث عن مبررات قد تفسد للود قضية، كما يثبت الاعتذار قوة الطرف الآخر ومكانته ووجاهته مهما كان موضوع الخلاف ومسبباته، وتبقى المصالح في كل تلك التفاصيل شاهد عيان على استمرار العلاقات، وتوثيقها، والأهم حين تكون دافعاً للعمل المشترك مستقبلاً.
الاعتذار الألماني الذي قدّم فيه أسفه عن سوء الفهم الذي لحق بالعلاقات السعودية الألمانية مؤخراً كان مهذباً؛ لدرجة أن الترحيب السعودي كان سريعاً في التجاوب معه، ويكفي أن تلوم ألمانيا نفسها –كما جاء في البيان- بأنها لم تكن أكثر وضوحاً في تواصلها مع الجانب السعودي، وتعبّر بلغة أخرى عن أسفها، وكذلك عن رغبتها في تجاوز سوء الفهم بالحوار وتقوية الشراكات وخدمة المصالح، والإشادة بعد كل ذلك بدور المملكة في المنطقة والعالم.
البيان له قيمة في مضمونه، فألمانيا أحد أهم دول العشرين اقتصادياً، ومن الدول الثماني الصناعية في العالم، وعضو في الناتو، وأقوى دول الاتحاد الأوروبي، وأوسعها نفوذاً، وأكثرها سكاناً، ومع ذلك اعتذرت، ولامت نفسها؛ لأنها تدخلت فيما لا يعنيها، وهو المبدأ الذي تلتزم به المملكة بأن لا تتدخل في شؤون أي دولة داخلية، ولا تسمح في الوقت نفسه لأي دولة أن تتدخل في شؤونها، وعلى هذا الأساس يكون التعامل بين الدول.
والاعتذار مهم في توقيته، حيث يعاد صياغة المنطقة على أساس جديد من المصالح المشتركة، والتعاون الذي تكون فيه العلاقات أكثر وضوحاً، وانحيازاً ضد مشروعات الفوضى ودعم الإرهاب، ودولة مثل ألمانيا تعي دورها السياسي والاقتصادي، وتقرأ المشهد جيداً، وتدرك سياسياً أن المملكة وحلفاءها في الطريق الصحيح دفاعاً عن أنفسهم، وتعزيزاً للأمن والاستقرار في المنطقة، كما تدرك اقتصادياً أن مشروعات 800 شركة ألمانية و200 فرع مكتب اتصال لشركات ألمانية أخرى، وصادرات تقدر بحوالي ثمانية مليارات دولار سنوياً للمملكة مهددة؛ بسبب يمكن التراجع عنه.
والبيان الألماني رسالة من بين السطور لدول أخرى أن تفهم معنى الاعتذار للمملكة؛ فالقضية ليست مناكفات سياسية على حساب المصالح، ولكنه عقل يعي موازين القوى، ويضعها في المكان الذي يليق بها، وهو ما فعلته ألمانيا التي تعرف الثقل السعودي المؤثر اليوم في المنطقة، ولا تريد أن تخسره، أو تفقد فرص التعاون معه؛ فالتراجع عن الخطأ أفضل من الاستمرار فيه لمجرد الرغبة في الانتصار الذاتي، أو الاستكبار على الواقع الذي يفرض أجنداته تحت بند المصالح الدولية أولاً.
د. أحمد الجميعـة
(الرياض)