من ترومان إلى ترامب فلسطين وديعة أهلها
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
في العام 1974 من القرن الماضي اهتز المجتمع الأميركي عندما ظهرت أمامه وقائع عملية تجسّس دبرها الحزب الجمهوري بوضع أجهزة تنصت في مقر الحزب الديموقراطي الحاكم برئاسة ريتشارد نيكسون. وقد تورط في تلك العملية «كل رجال الرئيس» بحسب عنوان الفيلم الذي أحدث ضجة عالمية. وكان صحافيان من جريدة «واشنطن بوست» وراء كشف الفضيحة التي أدّت إلى استقالة الرئيس نيكسون.
بعد 44 سنة على ذلك الحدث، ظهر في الأسبوع الأول من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري كتاب للصحافي بوب وودورد (أحد مؤلفي الكتاب الأول) عنوانه «خوف ترامب في البيت الأبيض»
وعلى ذمة رئيس أركان موظفي «البيت الأبيض» جون كيلي فقد وصف الرئيس دونالد ترامب بأنه «أبله، ومعتوه، وكذاب»، وقال عنه محاميه السابق جون داود أنه «كذّاب وأرعن». أما وزير الدفاع جيمس ماتيس فاكتفى بشهادة عن ترامب: «إنه يتمتع بمستوى فهم تلميذ في الصف الخامس».
هذه بعض شهادات صحيحة لشهود من أهل الإدارة الأميركية تأتي في مرحلة مخاض عسير مع الرئيس الجمهوري الذي أشهر هويته الصهيونية في اندفاعه نحو تطويب فلسطين لإسرائيل.
إنه التاريخ الذي يعيد نفسه، فمع نهاية المئوية الأولى لعهد بلفور وصل دونالد ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض ليلاقي بنيامين نتانياهو على إعلان إسرائيل دولة قومية يهودية عاصمتها القدس.
في البدء، وقبل نتانياهو وترامب، كان هاري ترومان (صاحب دكان الخردة) قد صار رئيساً للولايات المتحدة الأميركية عن الحزب الديموقراطي، وكان دايفيد بن غوريون زعيماً «لحزب العمل» الصهيوني، وفي عهدهما المشترك صدر قرار تقسيم فلسطين في العام 1947 مع إعلان تأسيس دولة إسرائيل، ثم كانت حرب 1948 التي بدأت في ذلك الزمن ولما تنته بعد، بل هي مستمرة بالرهان حتى تحقيق الحلم الصهيوني الأكبر.
سبعة عقود مرّت تبدل خلالها العالم، ولم يتبدل الثنائي الأميركي- الإسرائيلي، من ترومان– بن غوريون إلى ترامب– نتانياهو. وعلى مدار ذلك الزمن كانت الدول الكبيرة والصغيرة تتبدّل بالأنظمة الديموقراطية، أو بالانقلابات والاغتيالات، والحروب، و «الثورات» خصوصاً في العالم العربي، لتبقى إسرائيل وحدها المحصنة، من الداخل، ومن عالم الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وباستثناء «حرب العبور» في العام 1973 ذهبت كل الحروب الإقليمية بمعظم مقومات الدول العربية، وصولاً إلى جهنم «الربيع العربي» الذي يقترب من نهاية سنته الثامنة، ولا يزال أفق نهايته خلف طبقات الغيوم السود، ومصير فلسطين خلف تلك الغيوم.
قبل نحو نصف قرن وقف ياسر عرفات على منبر الأمم المتحدة في نيويورك ملوّحاً للعالم بغصن الزيتون، حاجباً مسدسه، رمز الثورة الفلسطينية، آملاً أن يكون ذلك الرمز فاتحة طريق تؤدي إلى «دولة فلسطينية» تجاور دولة إسرائيل.
ومن نيويورك إلى «أوسلو» حيث تم الاتفاق الشهير بين منظمة التحرير وإسرائيل برعاية دولية، خُيّل إلى «أبو عمار» أن يجعل من «أوسلو» في ذلك الزمن «حصان طروادة» يتسلل فيه إلى فلسطين، الوطن والأم والأهل، حيث يمكنه أن يباشر إقامة دولته المستقلة، ولو على شبر من أرضها.
كان حلم عرفات في ذلك الزمن أكبر بكثير من الوعد بحكم ذاتي يدوم خمس سنوات للانتقال إلى «دولة فلسطين المستقلة»، لكن السنوات الخمس التي مضت لم تكن كافية لتمنح «أبو عمار» حرية الانتقال من غزة إلى أريحا، فكيف إلى القدس! رحم الله «الختيار» الذي لم يكن نصيبه من الحلم بدولة فلسطينية حرة سوى ضريحه.
تحضر هذه الوقائع الفلسطينية في هذا الزمن العربي الرديء الذي ازداد رداءة وخطورة مع دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض، فمنذ خطابه الأول، وعبر مساره السياسي في حملته الانتخابية حتى وصوله إلى سدّة الرئاسة، برهن عن شخصية ركيكة مضطربة لا تقيم وزناً لقيم أو مبادئ، لا في السيرة الذاتية، ولا في المسؤولية التي رفعته إلى مرتبة رئاسة الولايات المتحدة. فما هو إلا مقاول من درجة متدنية بالأخلاق والسلوك، وقد أثبت ذلك في معركته الانتخابية التي فاز فيها ملاحقاً بالاتهامات التي واكبته وأهمها التزوير، والأدهى من ذلك ما بات ثابتاً من تفاصيل الاختراق الروسي للانتخابات الأميركية لحساب دونالد ترامب ضد منافسته المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون.
ما يعني العالم العربي من رئاسة أي دولة أجنبية، أميركية كانت أو أوروبية، هو موقفها من قضية فلسطين، ودونالد ترامب هو الأسوأ بين الرؤساء الأميركيين منذ الرئيس الأميركي الجمهوري هاري ترومان الذي وهب العصابات الصهيونية في العام 1947 صك إنشاء دولة إسرائيل برئاسة دايفيد بن غوريون، ثم خاض معه ومع بريطانيا (العظمى) المحتلة معركة إصدار قرار تقسيم فلسطين في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. منذ ذلك التاريخ تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 حلّت اللعنة، ليس في فلسطين وحدها، بل في العالم العربي بأجمعه.
بعد 71 عاماً من ذلك التاريخ يأتي الرئيس الأميركي الجمهوري دونالد ترامب ليعمل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على إعلان إسرائيل «دولة قومية لليهود»، ولا مكان، ولا حصة، لعرب فلسطين، أهل البلاد، إلا خارج الكيان الصهيوني. هذا هو الواقع الذي يواجه الفلسطينيين في أرضهم وفي أقطر الشتات، ومعهم العرب في جميع أقطارهم المبتلية بـــ «الدواعش»، من جهة، ومن جهة أخرى بالجيوش الأجنبية (الحليفة) التي تحولت قوى احتلال مقنع بأوصاف وعناوين وشعارات لا تخدع أهل البلاد المغلوبين على أمرهم بانتظار فرج لا يعرفون هويته، ومتى موعده.
ولعلّ الفلسطينيين في حالهم الراهنة هم الأسوأ حظاً، والأقل رجاء واطمئناناً على مستقبلهم ومصيرهم. فقد كانت لهم حكومة، وقيادة سياسية «موحدة»، وكانت لهم «عاصمة» بالاسم، والصلاحية، والتمثيل، وإن توزعت الصلاحيات، وتعددت القيادات، واختلفت الإستراتيجيات.
لقد انشطرت فلسطين (الباقية) حكومتين، وصارت فلسطين فلسطينين، بينهما حدود عازلة، وقطيعة، ما بين «دولتي» «فتح» و «حماس»، أو بين «رام الله» وغزة، والأفظع من ذلك أن الاتجاه العام على المستويات (العالية) لا يؤشر إلى إمكانية تقارب وتفاهم للعودة إلى الوحدة. هذا هو الواقع الراهن للوضع الفلسطيني العام، على رّغم من كل المحاولات واللقاءات التي تمت، وتستمر، وإن متقطعة، بين كوادر «فتح» و»حماس»، في ضيافة مصر.
مع ذلك، هناك دائماً «مراقبون» من الفلسطينيين وسواهم، يتابعون هذا المسار الفلسطيني المظلم والظالم، ويحاولون دائماً أن يكونوا محايدين، وغير ظالمين، فيما البعض منهم لا يتحمل الوقوف في الوسط تأكيداً على عدم الانحياز إلى «فتح» أو إلى «حماس». لكن الأحداث والتحولات الخطيرة تتسارع على المسار الفلسطيني العام وتهدد بأخطر مما حدث حتى هذه المرحلة، فإذا كان هاري ترومان قد نال جائزة الصهيونية العالمية بإهدائها الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، فإن دونالد ترامب يراهن على نيله جائزة «إسرائيل الكبرى».
في العام 1974 احتاجت منظمة التحرير الفلسطينية إلى عقد قمة في الرباط لانتزاع حقها الطبيعي في الاعتراف الرسمي بكونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ويتذكر المراقبون والمتابعون لمسار المنظمات المقاومة كيف بدأت تتخبط في نزاعاتها الداخلية على مراتب وحصص وعلاقات مع الدول العربية، وسواها من الدول الأجنبية، شرقاً، وغرباً.
وقد استعجلت قيادة المنظمة في ذلك الزمن القفز من «ثورة» إلى «دولة»، وأقامت مؤسساتها العسكرية والإدارية، والسياسية، والإعلامية خارج أرض فلسطين. وفي ذلك الزمن تحول لبنان إلى «أرض وشعب» لتلك «الدولة» التي راحت تلقي على الوطن الصغير، نسبياً، بمساحته وإمكاناته، أثقالها العسكرية، والاقتصادية، فضلاً عن التدخل في شؤونه السياسية، وهو والوطن العربي الشهير بتعدد سياسته وأحزابه ونزاعاته.
ويتذكر العالم العربي اليوم، واللبنانيون خصوصاً، ماذا كانت العواقب حين وقعت الكارثة على الجميع بدءاً من حرب 1975 وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي الجنوب حتى العاصمة بيروت والمرتفعات الجبلية.
وإذا اقتضت الصراحة في هذا الموضوع فيمكن القول حالياً أن ما من دولة عربية مستعدة، أو قادرة، على استيعاب نكبة فلسطينية إضافية.
فماذا يستطيع الفلسطينيون المنتظمون في منظمات مشتتة أن يفعلوا؟.. يستطيعون أولاً أن يتنازلوا ليتقاربوا ويندمجوا في منظمة واحدة موحدة، سواء كانت منظمة «فتح» أو «حماس» أو «الجبهة الشعبية»، أو «الديموقراطية» وسواها من المنظمات والتنظيمات وذلك أن فلسطين بالدرجة الأولى هي وديعة أهلها، ومعهم سائر العرب.
لا يحتاج القادة الفلسطينيون إلى من ينصحهم ويدلهم على الطريق إلى فلسطين.
يحتاجون فقط إلى وقفة شجاعة وتسامح وعزم والتطلع نحو القدس وسوف يجدون شباب العالم العربي بأسره، ومعهم الأصدقاء والأنصار الشرفاء في جميع أنحاء العالم الواسع.
عزت صافي
(الحياة)