هوية جديدة للمسكن السعودي
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
قرار إلغاء الارتداد يجب أن يكون مقدمة لقرارات أخرى تعيد تشكيل المجاورة السكنية بشكل كامل، وتفتح المجال لهوية «شبه جديدة» للمسكن السعودي؛ لأنها ستجعلنا نعيد اكتشاف القيم الاجتماعية، الفراغية والجمالية، التي كانت عليها مساكننا في السابق..
قبل عقدين من الزمن قام بعض المهتمين في وزارة الشؤون البلدية والقروية، وأخص بالذكر الدكتور عبدالعزيز الخضيري الذي كان رئيساً للجمعية السعودية لعلوم العمران، وفي نفس الوقت وكيلاً مساعداً لوكالة تخطيط المدن في وزارة الشؤون البلدية والقروية بوضع عدة مقترحات لتغيير أنظمة البناء، خصوصاً أنظمة الارتداد في المساكن، لكن تلك المقترحات لم يكتب لها النجاح إلا الأسبوع الفائت عندما قررت الوزارة تغيير النظام والسماح لملاك المساكن البناء في الارتدادات الجانبية في الطابق الأرضي، وربط الملحق الأمامي بكتلة المسكن. لابد أن أقول: إن لتلك المحاولات المبكرة تأثيراً على الأفكار المتداولة في الوزارة والتي أدت إلى مثل هذا القرار المهم، وإن أتى متأخراً كثيراً، لكن سيكون له تأثير كبير على شكل واقتصاديات المسكن السعودي في الفترة القادمة، إنه قرار سيؤدي إلى حدوث تحول كبير في المساكن القائمة، وقد يشجع أصحاب المساكن على إعادة النظر في بيوتهم التي يسكنونها حالياً.
أذكر أنني كتبت عدة مقالات في نهاية القرن الماضي في صفحة العمران والتنمية في جريدة «الرياض»، نشرت معظمها مرة أخرى في كتاب «من المربع إلى العذيبات»، «نشرته الجريدة العام 2001م» حول بعض الأفكار العملية التي تبين كيف يمكن جعل البيوت متلاصقة حتى لو من جهة واحدة، وكان الحصول على فرصة من جهة واحدة في ذلك الوقت مغنماً كبيراً، لكن جميع هذه الأفكار كانت تصطدم بالنظام الذي كان صارماً، وكان يهدر مساحات كبيرة، ويجعل من الفراغات المهملة على جانبي وخلف المسكن مكاناً للأتربة، ويحمل الملاك عبء صيانتها وتنظيفها فضلاً عن التضييق عليهم داخل بيوتهم. قرار الوزارة الأخير سيفتح، دون شك، المجال واسعاً للتفكير الإبداعي في تصميم المسكن السعودي، وإن كنت أرى أن هذا القرار لا يكفي أبداً بل يجب أن يتبعه السماح لأصحاب المساكن تقسيم بيوتهم القائمة إلى وحدات سكنية أصغر، فهذا سيؤدي حتماً إلى حل جزء كبير من مشكلة الإسكان الحالية، وسيسهم بشكل كبير في تقليل التكاليف التشغيلية خصوصاً فواتير الكهرباء والماء.
قبل أن يصدر القرار بساعات كنت أفكر في صورة تعرض أحد طرق باريس، وكنت أتساءل عن الكتل السكنية الضخمة ذات الأربعة أو الخمسة طوابق دون ارتدادات، وتذكرت أنني توقفت مرة عند أحد الأبواب الكبيرة في طريق مشابه، يؤدي إلى فناء داخلي تحيط به الكتل السكنية، فالحلول المتبعة اعتمدت على الفناء الكبير الذي يمكن توظيفه كمجال للحياة بدلاً من الارتدادات الصغيرة والمجزأة وغير المفيدة. الغريب أن هذه الفكرة كانت متبعة في مدننا القديمة، وكانت ملائمة لأسلوب حياتنا ثم تخلينا عنها في نهاية الخمسينات، وأصبح قانون الارتداد نافذاً مع صندوق التنمية العقارية العام 1975م ومنذ ذلك الوقت ونحن نعاني من فكرة فراغية وتصميمية لا تناسبنا أبداً، بينما تخلينا عن الأفكار التي شكلت هويتنا ونمط حياتنا لمئات السنين. في اعتقادي أن قرار الوزارة بإلغاء الارتداد يجب أن يكون مقدمة لقرارات أخرى تعيد تشكيل المجاورة السكنية بشكل كامل، وتفتح المجال لهوية «شبه جديدة» للمسكن السعودي، وأقول «شبه جديدة»؛ لأنها ستجعلنا نعيد اكتشاف القيم الاجتماعية، الفراغية والجمالية، التي كانت عليها مساكننا في السابق.
بالنسبة لي كناقد ومصمم معماري كانت الارتدادات تشكل عائقاً غير منطقي يجعلني في كثير من الأحيان أشعر بالحنق على الأنظمة العمرانية التي تكبل أفكار المصمم ولا تخدم المستخدم وتزيد من العبء على الاقتصاد الوطني، وخلال الثلاثة عقود تحايلت على هذه الأنظمة كثيراً، وأعترف الآن بهذا التحايل، والذي كان عبر تطوير حلول غير دائمة للأسف لكن التقنية المعاصرة وتطور تقنيات البناء على وجه الخصوص ساعد هذا التحايل الذي كان يتجه دائماً لتوظيف الارتدادات الجانبية ودمجها في فراغات المسكن. لابد أن نعترف جميعاً أن أنظمة البناء أوجدت حالة من التكرار البصري في المجاورات السكنية صنع حالة من الملل الجمالي غير المبرر، لكن الإشكالية هي أن قرار الوزارة الأخير لا يعالج هذه الحالة أبداً بل هو قرار «فراغي» بالدرجة الأولى، لن يُحدث تغييراً بصرياً ملحوظاً وإن كان سيساعد كثيراً على ابتكار حلول جديدة قد تؤثر على الشكل العام للمسكن السعودي في المستقبل.
مشاري عبدالله النعيم
(الرياض)