قصتي مع الإعلام
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
وضعني الطلب بالكتابة عن تجربتي مع الصحافة والإعلام، في زاوية ضيقة جداً، خاصة أن عمر هذه التجربة يتجاوز 35 عاماً، قضيتها في جهد متصل لم يسمح لي ولو بساعة للتذكر والتأمل.
مع ذلك، سأحاول أن ألبي الطلب – ولو على طريقة مواجيز الأخبار – بحيث ألتقط بعضاً مما تسعفني به الذاكرة.
ومن هذه النوافذ؛ يطل علي مشهد البداية كطيف جميل؛ كنت في المرحلة الثانوية، عندما جاءتني الفرصة لمراسلة صحيفة «اليوم»، ثم تجرأت فأرسلت لهم مقالة، وكلي يقين بأنها لن تمر، غير أنني فوجئت بها منشورة في الصفحة الأخيرة بين أعمدة كبار الكتاب والأدباء… يا إلهي؛ ماذا أصاب القوم؟!
يبدو لي أنني كتبت وقتها بطريقة جعلت القائمين على النشر يظنون أني في سن الشيوخ، ولذلك كانت دهشتهم واضحة عندما أتيت من مسقط رأسي في رأس تنورة إلى مقر الصحيفة في الدمام… بعفوية، قلت لهم: أنا طارق إبراهيم، فراحت العيون تتفحصني، بكثير من الدهشة وكأنهم لا يصدقون أن هذا المراهق الذي دخل عليهم بالبنطال والقميص وبشعره الطويل هو نفسه صاحب «المقال العجوز»!.
كانت دهشتهم مبررة، إذ أن عمري – حينئذ – لم يكن قد تجاوز 16 عاماً.
نظرات الدهشة نفسها صاحبتني في أكثر من محطة، لعل أقربها لذاكرتي، ما حدث يوم بدأت أرافق – كرئيس تحرير لصحيفة «الوطن» – رؤساء تحرير الصحف السعودية العريقة خلال الرحلات الخارجية مع الملك. وقتها؛ كنت أقف بجوار رؤساء تحرير أعمارهم في عمر والدي، وأغلبهم تشرفت بزيارتهم يوم كنت في السنة الأولى بقسم الإعلام بجامعة الملك سعود… هل تتخيل؛ شاب في نهاية الثلاثين تقريباً يجاور تركي السديري – رحمه الله – وهاشم عبده هاشم وخالد المالك (حفظهما الله)… في ظني كنت يومها أصغر رئيس تحرير في السعودية.
غير أن تلك الدهشة سرعان ما تتراجع في ذاكرتي، عندما تطل لحظات الكد المهني، التي قادتني حتى حواف الخطر… في ذلك لا تفارقني عدة مشاهد أبرزها؛ دخولي مشيا على الأقدام سراييفو عاصمة البوسنة المحاصرة من أربع جهات في أوج حرب البلقان، ثم خروجي منها وكيف نجوت ومن معي من قصف صربي بفضل الله ثم بفضل الجيش المصري العامل وقتها ضمن قوات الأمم المتحدة.
مثل ذلك حدث، ولكن بطريقة أخرى، خلال زيارتي في رحلة صحافية مصورة لسبع دول أفريقية ضربتها المجاعة عام 1991… يومها عانيت من نزيف متواصل، بعدما تسبب سوء الطرق بتلك الدول الفقيرة بفتح عملية جراحية كنت قد أجريتها حديثاً، ثم زادت دراما هذه الرحلة، عندما التقينا نائب رئيس إحدى تلك الدول في منزله، وبمجرد أن غادرنا تم تفجير المكان، وكان ذلك ضمن انقلاب عسكري، تتابعت فصوله لاحقاً، لكن ذلك كله حدث بعد أن خرجنا للتو من حدود هذه الدولة.
حتى وأنا داخل السعودية، لم أكن بعيداً عن الأحداث الكبيرة، إذ أتيحت لي الفرصة لتغطية حرب تحرير الكويت (1990-1991)، حيث عملت مراسلاً لصحيفة «صوت الكويت» التي كان يرأس تحريرها الدكتور محمد الرميحي، وأحسب أني قدمت عملاً صحافياً متميزاً، وليس أدل على ذلك من بقائه في صدارة التجارب التي تحتفظ بها الذاكرة…
أعلم أن القارئ سيلاحظ أن ذكرياتي كلها مستمدة من العمل الميداني، وله أوضح أني وجدت في هذا الجانب نفسي، وكنت أحرص على أن أخرج منه بتقارير وتحقيقات وحوارات تقدم الجديد والمفيد للقارئ، مع وضع عناوين غير تقليدية والاستفادة من الصور التي كنت ألتقطها…
وبسبب حرصي على ظهور المواد بشكل مميز، بات لي حضور دائم بقسم الإخراج، حيث كنت أستمتع بتقديم المقترحات لزملائي المخرجين أملاً في صنع صفحات ناطقة تعطي كل شيء حقه.
أخيراً؛ أصل إلى المحطة الأهم في مسيرتي، وهي رئاسة تحرير صحيفة «الوطن»، والتي أتاحت لي فرصة تقديم عمل مهني نموذجي في صحيفة جديدة جريئة لا سقف لآمالها وطموحاتها المهنية، تماماً كما جاء في شعارها الشهير: «الحقيقة مهما كلف الثمن».
فوق جبال عسير الشاهقة، كنا نصنع الصحيفة بأرواحنا وبحماس يندر أن أرى مثله… وفي ذلك تحتفظ ذاكرتي بالكثير، لكنني أكتفي بما قمت به يوم ضرب العراق في 20 مارس (آذار) 2003.
في الساعة الرابعة فجرا، بدأت الطائرات الأميركية في الهجوم على المواقع العراقية، وهو توقيت أخرج الصحف السعودية من المتابعة، لأنها كانت قد صدرت بالفعل، لكنني قررت أن نصدر طبعة خاصة من «الوطن» تواكب الحدث، ومن أجل ذلك كان علي أن أعود إلى مقر الجريدة، لأقف على التنفيذ.
كانت «سي إن إن» تذيع أول أخبار الضربات، بينما أنا أطلب من الفندق، الذي أقيم به بمدينة خميس مشيط، سيارة تقلني لمقر «الوطن». القريب من مطار أبها… خجلوا مني وهم يبلغونني بأنه لا توجد إلا سيارة المطعم المخصصة لنقل الطعام للمناسبات، فابتسمت وقلت: اعتبروها مناسبة! والحق أنه لولا ذلك ما كانت «الوطن» قد أصدرت طبعتها الخاصة، التي ما زال كثيرون يتذكرونها كواحدة من اللحظات المهمة في عمر الصحافة السعودية.
طارق إبراهيم
(الشرق الأوسط)