الأردن … من كان ينفخ في الرماد؟
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
كان هناك الكثيرون ممن ينفخون في الرماد في الشارع الأردني، هذا الأمر كان واضحاً منذ أن بدأت الاحتجاجات على قرار الحكومة بتقديم مشروع ضريبة الدخل إلى مجلس النواب، رأى فيه الأردنيون أنه يمس بأصحاب الدخل المنخفض بشكل أساس فنزل الناس إلى الشارع، واستجاب الملك لمطالب الناس فأقال الحكومة وكلف حكومة جديدة بمهمة معالجة الأزمة الاقتصادية والتعامل مع متطلبات صندوق النقد الدولي بإجراء الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، من دون المساس بمن أرهقتهم المعيشة من المواطنين.
اللافت في الأمر أن هذه الاحتجاجات على رغم اتساع نطاقها وعلو صوتها كانت حضارية بمقدار ما نعرف عن رقي الشعب الأردني، فلم يشهد هذا الشارع أي أعمال عنف من كلا الجانبين: المتظاهرون أو رجال الأمن الذين كلفوا باحتواء الأمر بأقصى درجة من ضبط النفس، لكن الأصوات النشاز التي شذت بالقول وبالفعل كانت الأكثر انتشاراً على وسائل التواصل الاجتماعي في حملات بث منظمة، حتى تصور الناس أن انهيار الدولة الأردنية أمر وشيك الوقوع، وترافق ذلك مع نعيق غربان البين على قنوات الفتنة التي سعت لتضخيم الأمور والتحريض، وهي القنوات والأصوات نفسها التي دعت المسلمين جميعاً إلى أن يهبوا لدعم الاقتصاد التركي حتى بزكاة الفطر.
وهذه القنوات والأصوات نفسها هي التي تروج لفكرة أن الأردن هو ضحية مؤامرة لما يسمى بـ «صفقة القرن» التي تريد أن تحول الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين، في تناقض عجيب بين الفكرتين، فمؤسسة الحكم الأردنية التي تتهم مرة بالفشل في إدارة اقتصادها ويجب تغييرها بالثورة على طريقة الربيع العربي، هي في الوقت نفسه دولة محاصرة يريد محاصروها إما القبول بفكرة الوطن البديل أو الخنق الاقتصادي، كما زعمت هذه القنوات والأصوات. ولا ينسى هؤلاء أن يزجوا باسم المملكة العربية السعودية على رأس قائمة المتآمرين والداعمين لصفقة القرن.
قناة الجزيرة القطرية وجوقة قنوات الإخوان المسلمين التي تبث من تركيا والتي ثابرت على بث الأكاذيب والتحريض، صدمت أولاً من عدم استجابة الشارع الأردني ومناعته تجاه سمومها، بل إن الأنباء المتواترة أشارت إلى تعرض مراسل قناة الجزيرة للضرب في شوارع عمان، لكنها صدمت أكثر من الدعوة العاجلة التي وجهها خادم الحرمين الشريفين إلى «قمة مكة» الرباعية لتقديم الدعم الفوري للأردن، ومن الاستجابة السريعة من قيادات دولة الكويت والإمارات العربية المتحدة والعاهل الأردني للالتقاء في جوار بيت الله الحرام والخروج ببيان واضح يؤكد حرص هذه الدول على عدم السماح لدعاة الفتن لإيقاع الأردن في مستنقع الدمار الذي طاول دولاً أخرى في العالم العربي.
سرعة الاستجابة واتخاذ الموقف الصحيح في الوقت الصحيح هو ما يميز السياسة السعودية في قيادة المنطقة العربية، والمتتبع لهذه السياسة والتوجه الاستراتيجي مع بداية عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، يرى أن الخيارات الأكثر أهمية كانت في التنمية الاقتصادية وفي حماية المنطقة من محاولات الهيمنة، فلم يكن من المقبول السماح لفكرة الفوضى الخلاقة بأن تتمدد بأكثر مما فعلت، ولذا جاءت «عاصفة الحزم» لتوقف المحاولات الإيرانية للدخول إلى عمق الجزيرة العربية، وتبدت القدرة السعودية في بناء التحالفات الإقليمية والدولية للحفاظ على تماسك العالم العربي، بدءاً من التحالف العربي لإعادة الشرعية لليمن، إلى التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، ووصولاً إلى التحالف المقاوم للإرهاب والذي استهدف عزل عنصر خلق الفوضى المتمثل في النظام القطري.
كانت الدعوات السعودية تلقى دائماً استجابة العقلاء، وتخرج دائماً بنتائج باهرة في معالجة الأزمات. والدعوة إلى «قمة مكة» الرباعية أثمرت خلال اجتماع لم يتجاوز الساعة حزمة من المساعدات الاقتصادية للأردن تلتزم بما هو أكثر من الدعم المباشر لميزانية الحكومة أو الودائع في البنك المركز، بل تتعداه إلى تقوية الموقف الائتماني للدولة الأردنية أمام البنك الدولي بالضمانات وتمويل مشاريع تنموية.
أهمية الأردن للمنطقة العربية ولدول الخليج لا تكمن فقط في موقعه الاستراتيجي كدولة مواجهة، ولا في كونها أحد عناصر الاستقرار للعالم العربي في هذا الزمن المضطرب، ولكنها تكمن أيضاً في أنه يمتلك طاقة بشرية خلاقة تتجاوز قدراته من الثروات الطبيعية، فالقدرات الأردنية في علوم المعلوماتية والتقنية كان يمكن أن تكون ذات موقع قيادي في العالم الحديث، لو لم يسرق الكيان الصهيوني هذه المكانة، حتى أن رئيس وزرائه بنيامين نتانياهو يتبجح بأنهم يملكون أهم مراكز الأبحاث للشركات التقنية الرائدة في العالم.
لكن الفرصة لم تذهب بعد تماماً، فالإنسان الأردني مازال على عروبته وأصالته وإمكاناته قادراً على أن يكون جزءاً فاعلاً في مشروعات المستقبل، وأقربها مشروع نيوم الذي يمتد نطاق تغطيته إلى داخل الحدود الأردنية، كما المصرية.
يبقى فقط أن تنجح الحكومة الأردنية الجديدة في تعديل المسار والخروج من الأزمة الحالية، وأن يبقى الشارع الأردني متماسكاً قوياً في وجه دعاة الفتنة والنافخين في الرماد.
سلطان البازعي
(الحياة)