حوكمة المصالح.. المملكة وفرنسا نموذجاً
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
المصالح السعودية على مدى عقود من الزمن بنت علاقات، وشراكات، واستثمارات، ولكنها بقيت إلى حد كبير في دائرة الاستهلاك وليس الإنتاج، والتمويل أكثر من التحصيل، وتنمية المكان قبل الإنسان، وخلصنا إلى أن مصالحنا سياسية وعسكرية وأمنية أكثر منها اقتصادية وثقافية؛ لأننا باختصار تحملنا أعباء منطقة مثقلة بأزمات وأحداث وتدخلات دولية متعددة، وتعودنا أن نبقى مؤثرين فيها بمكانتنا وليس بإمكاناتنا سوى النفط الذي كان يتحدث بالنيابة عنّا.
الأمير محمد بن سلمان جعل كل ذلك من الماضي الذي لا نقلل منه، ولكن لا نستمر في بناء استراتيجية حضور السعودية الجديدة عليه، فلا يمكن مثلاً أن تبقى الموازين التجارية للصادرات والواردات لصالح غيرنا، أو ندفع مبالغ طائلة على صفقات السلاح بلا محتوى محلي أو نقل للتقنية، أو نستمر في استقطاب المستثمرين من دون أن يكون هناك بيئة محفزة على الاستدامة والنجاح.
اليوم هناك حوكمة جديدة للمصالح السعودية؛ فالإنسان أولاً، وتعظيم المحتوى المحلي ثانياً، وصناعة الفرص ثم تسويقها ثالثاً، وجذب الاستثمارات التي تقتطع العائد بأسرع وقت رابعاً، وهذه الإجراءات التي نتفاوض عليها في كل مشروع اقتصادي منحتنا ميزة البناء المنتج وليس المستهلك، وأخذنا من تجارب العالم أفضلها، وفرزنا شركاءنا بناءً على أولوياتنا وليس أولوياتهم، وأطلقنا نهضتنا على أساس مصادر قوتنا وحاجتنا، وأقنعنا العالم أن لدينا فرصاً أكبر من أي وقت مضى؛ لأننا تغيّرنا.
الأمير محمد بن سلمان مدرك أن مصالح الدول تبدأ بالاقتصاد الذي يحصّن أي علاقات أو تفاهمات سياسية، أو صفقات عسكرية، ويرى فيه سبيلاً يستحق أن يبقى شاهداً على أي علاقة، ومنحازاً لجميع الأطراف حينما تختلف، بل وأكثر من ذلك تغيير القناعات والمبادئ التي لا تستجيب للتغيير إلاّ بلغة الأرقام.
يتواجد اليوم ولي العهد في باريس يبحث العلاقات الثنائية بين البلدين، والتعاون المشترك، ولكن بلغة المصالح التي عبّر عنها الزعيم الفرنسي شارل ديغول، قائلاً: «لا يوجد علاقات بين الدول؛ هناك مصالح»، والمصلحة السعودية ليست في البحث عن موقف سياسي قد يتغيّر، أو تعاون عسكري قد يتطور، ولكن في مشروع اقتصادي يبتلع كل تلك التفاصيل، ويجعلها تعيد الحسابات على أساس العائد المادي أكثر من الموقف السياسي.
صحيح أن هناك تقاطعات بين السياسة والاقتصاد، وحالة تكامل وانسجام بينهما، ولكن القصد أن تبقى المصلحة الاقتصادية محرّكاً للقرار السياسي للانفراج، والتوازن، والانحياز أحياناً مع الأرقام التي تمثّل علاقات البلدين.
فرنسا بالنسبة للمملكة مهمة في هذا التوقيت، وتحديداً في مشروعات الطاقة الرقمية والمتجددة، ومشروعات البنية التحتية، إلى جانب المشروعات الثقافية التي تنوي المملكة تنفيذها في مدائن صالح تحديداً، وهي شراكات استراتيجية بين البلدين على أساس المصالح الاقتصادية أولاً، حيث تمثّل نموذجاً عملياً لحوكمة المصالح بينهما، ولغة تعودا عليها، وحتماً ستصل العوائد منها أكبر من ذي قبل.
د. أحمد الجميعـة
(الرياض)