جاسوس واحد قد يؤدِّب خصمك!

لا يمكن أن تفصل التاريخ القديم عن الحديث، فالحاضر هو ما وُلِد من رحم الماضي، وما تنتهجه المُخابرات الغربية اليوم هو تعبير لما في النفوس والذاكرة على مر التاريخ، وكأنها تقول أدِّب خصمك التاريخي عن طريق جواسيس ذوي أُفق تاريخي واسع..

عبر التاريخ لعب السلاطين أدواراً أكبر من حجم أدمغتهم، كدور التنبؤ بالمستقبل، وحصدوا ما حصدوا من إعجاب شعوبهم وترهيب شعوب أخرى، ومع الأيام كُشف عن سر تنبؤ هؤلاء السلاطين، وكان السر عبارة عن كومة من الجواسيس البارعين الذين يعملون ليل نهار لجمع المعلومات التي يستطيع أن يتنبأ السلاطين من خلالها على مجريات الأحداث مستقبلاً، ويتميز الجواسيس بحدة الذكاء فلا يمكن أن تجد جاسوساً غبياً، كما يتميّز الجواسيس بإجادة لعب الأدوار ببراعة فمن الطبيعي أن تجده في الصباح طبيباً بيده قلم ومشرط، وطبّاخاً بالمساء، وفي صباح اليوم الثاني تجده أستاذاً يحمل كتاباً وحقيبة تعليمية وفي مساء اليوم نفسه تجده مُهرجاً على المسرح.. والجاسوس فنان عند اللزوم فهو من قوة التفنن عالي البصيرة، إنه آسر لما حوله؛ لأنه يمتلك معلومات تجعل من حوله ينجذب إليه، كما أنه قارئ جيد لرغبات الآخرين قبل أن يتحدثوا.

ثم إن الجواسيس هم قوت السلاطين الأقوياء وهم من يعملون خلف الكواليس بكل إنسانية ونُبل، إنهم أبطال حقيقيون، وكما يقول الباحث مدين: إنه مهما اختلفت التعريفات حول وظائف الجاسوس ففي نهاية المطاف هنالك وظيفة أساسية له، ألا وهي تحقيق الأمن والاستقرار للدولة أياً كان تكوينها السياسي أو فكرها الإيديولوجي.

وفي التاريخ الحديث أصبح للجواسيس مظلة تُدعى «بالمخابرات» وأصبح للمخابرات فلسفة ونظريات خاصة، ورجال ونساء أوفياء. لكن بعض أجهزة المخابرات في بداياتها لم تكن على قدرة ومستوى عالٍ، فقد ذكر الباحث مدين في أحد مؤلفاته: إن حرب الباسيفيك التي اندلعت بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان في فترة الحرب العالمية الثانية 1941-1945م لم يكن أي من الطرفين معنياً بها واستمرت أكثر مما كان ينبغي أن تستمر وخلّفت خسائر فادحة، فهل كان السبب وراء ذلك هو أجهزة المخابرات الرديئة؟

وتُشير المصادر في التاريخ أن التوتر بين أميركا واليابان قد بدأ أساساً قبل الحرب العالمية الثانية بثمانية أعوام تقريباً في العام 1931م حينما احتلت اليابان منشوريا، حيث بدأت الاتهامات تتبادل بين الطرفين لكن على الرغم من ذلك، كان ما يُميز العلاقات الأميركية – اليابانية حينها أنهما يتفقان على مُحاربة الشيوعية وهذا أمر مريح لكلا الطرفين، وعندما بدأت الحرب العالمية وقفتا كل منهما على الحياد تجاه ما يحدث، لكن في وجدان الأميركان غاية: وهي منع هتلر من الانتصار، وعندما فتحوا جبهة ثانية مع اليابان حينما شاكستهم دبلوماسياً لم يكن هذا في صالحهم؛ إذ إن اليابان قد أبرمت اتفاقية «حلف عسكري» مع هتلر؛ لتؤدب أميركا.. فأسرعت الولايات لتحريك أسطول ضخم إلى هاواي وفرضت عقوبات اقتصادية على اليابان، وقد جاء من وراء هذه القرارات الردعية نتيجة عكسية.

وشيئًا فشيئًا تولد لدى الأميركان فكرة أن اليابان تريد أن تتزعم القارة الآسيوية، وتوّجوا هذه الفكرة بدليل قاطع ألا وهو: انضمام اليابان إلى المعسكر الهتلري، وفي الوقت ذاته تولّد في نفوس اليابانيين غضب وشعور بالانتقام فسددوا ضربة موجعة للأميركان، وهي البدء بضرب ميناء بيرل هاربر، بلا سابق إنذار ودون إعلان للحرب عليهم؛ فتسبب الهجوم على الميناء بأضرار جسيمة للأسطول الأميركي، إلا أن حاملات الطائرات الأميركية لم تصب بأذى لكون الحاملات في عرض المحيط الهادي لأداء مهمات لها.

واختُتمت الحرب بينهما بالهجوم على هيروشيما وناغازاكي وهو هجوم نووي شنته أميركا على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.

وعلى أي حال؛ كان كلا الطرفين قد اقترف أخطاء فادحة ويبدو أن أجهزة مخابرات كلا البلدين لم تكن تعمل على طراز عالٍ، إذ إن المخابرات تحتاج إلى محللين وجواسيس واقعيين ومهنيين ذوي أفق تاريخي واسع، فقيام كلاهما على تلقين الآخر درساً دبلوماسياً قبل البدء بالحرب كان بسبب تحليل غير واقعي ومنطقي من خلال بعض أفراد أجهزة المخابرات لكليهما، كما أن أجهزة المخابرات حينها كانت تفتقر للفرضيات الواقعية وكان يطغى على موظفيها ميول سياسية وشخصية محضة، فتخويف أميركا لليابان قادها للانضمام إلى حلف هتلر، وقيام اليابان بهذا التحالف قادها إلى سلسلة من الحروب. ولا شك كل ذلك بسبب قصور وفشل استخباراتي ذريع لدى الطرفين.

وفي الوقت الحالي، تطوّرت أجهزة المخابرات وأصبحت أكثر براعة إذ تضم تحت مظلتها المئات من الخُبراء والمحللين ذوي البُعد التاريخي، فعلى سبيل المثال: حادثة «تسميم الجاسوس الروسي اللطيف» في بريطانيا، التي تم تصعيدها دولياً إلى أن شُكِّل منها أزمة في مختلف بُلدان القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وتم على إثرها طرد وترحيل عدد مهول من الدبلوماسيين والجواسيس الأبطال رجالاً ونساء!

إن المُبصر الذي يمتلك ذاكرة تاريخية ناقدة للأحداث، يعلم جيداً حبكة المخابرات البريطانية التي تُريد تأديب روسيا، كما تشعر الدول الأوروبية الأخرى بأنه حان الوقت لذلك فقد كانت روسيا مصدراً للقلق الدائم في القارة الأوروبية حتى وإن تحالفت معها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهي تشعر بالقلق نتيجة لعدم الاتفاق فيما بينهم على ملفات كُثر ثم إن الدول الأوروبية تنظر لروسيا كدولة تطمح للتوسع والنفوذ وهذا ما يشعرهم بالقلق أيضاً.

وعلى كل، سيكون هذا الجاسوس أداة ضغط على روسيا ستمارسه الدول الأوروبية؛ حتى تأمن ما يمكن تأمينه.

الخلاصة:

إلى الذين يقولون ما الفائدة من التاريخ؟ هذا شطرٌ من فوائده، فلا يمكن أن تفصل التاريخ القديم عن الحديث، فالحاضر هو ما وُلِد من رحم الماضي، وما تنتهجه المُخابرات الغربية اليوم هو تعبير لما في النفوس والذاكرة على مر التاريخ، وكأنها تقول أدِّب خصمك التاريخي عن طريق جواسيس ذوي أُفق تاريخي واسع!

تواصيف المقبل

(الرياض)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *