قوم عنترة وإخوان جُندب

ليس من أخلاق المسلم وليس من سمات الإنسانية؛ أن يوغل الرجل في نعيم وملذات الدنيا، ثم يحرض الآخرين على الزهد فيها وتركها، أو أن يتشبث بالحياة بكلتا يديه ثم يرغب غيره في الموت، فإن نفس المؤمن غالية لا تباع إلا لله..

لم تكن قضية إيثار النفس على الآخرين والإعجاب بها قضية «هامشية»، أو سلوكاً عصرياً، لم يكن للمتصفين به عرق نزعهم إلى تلك الأخلاق؛ بل هي قضية تصدرت المشهد وصاحبت الأزمنة، وناقشها الوجهاء والفصحاء، بل وأعلى وأصدق وأطهر من ذلك، ناقشها الرسل والأنبياء بوحي من خالق النفوس، ليرشدها إلى محاسنها ويحذرها من مساوئها.

بدأت القضية من عند إبليس الذي أبرز كبره ونظر إلى ذاته بعجب فقال (أنا خير منه) فقادته إلى هلاكه! وورّث ثقافة سيئة، سلبية، منتنة، كانت من أعظم الحواجز أمام الأنبياء والرسل في دعوة أقوامهم إلى الحق، فكم تمر بنا كلمة (فاستكبروا) فيما نتلوه من الذكر؟! وهذه الصفة من هذه الزاوية – أعني تفضيل النفس على الآخرين – ليست ملازمة للظهور على الملامح، بل قد تتوغل في أعماق النفس، وإن كان صاحبها لا يملك ما يدعوه إليها، إن لم يكن على العكس تمامًا!

وأحيانًا يظن بعضهم أن إظهار نعمة الله من الملبس والمأكل من الكبر، وقد رفع النبي صلى الله عليه وآله هذا الإشكال، حين سأله رجل قائلاً: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال صلى الله عليه وآله « إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس ».

والغالب أن هذه الأخلاق تتعدى إلى احتقار الآخرين وغمطهم، حتى يظن صاحبها أنه أحق بالحياة من غيره، وأجدر بنعيم الدنيا ممن يراهم دونه، إما تفاخرًا بحسب أو نسب، أو عجبًا وزهوًا ببدنٍ أو مال، أو بحسن وجمال، وقد نقل هذه الصورة بأزهى ألوانها عنترة العبسي الذي سلب عنه شرف انتسابه لقومه، قبل أن يشرفوا بانتسابه لهم، فيقول:

يُنادونَني في السِلمِ يا اِبنَ زَبيبَةٍ

وَعِندَ صِدامِ الخَيلِ يا اِبنَ الأَطايِبِ

فهم يقدمونه لتحقيق أطماعهم فإن تمت عاودوا الظهور، وإذا لم فلا يدرى في أي وادٍ هلك! غير أنّا نجد ما يعرضونه عليه من عوض قد لا يختلف من زمن إلى زمن، وربما اختلف في زمننا عند كثير ممن يرغّبون الشباب في إهلاك أنفسهم في «تفجيرات» «وعمليات انتحارية» وغير ذلك، تحت مسمى الجهاد، وهم في منأى عن ألسنة اللهب!

وكم غرر بشباب حتى تناثرت أشلاؤهم، ومن حرضهم يرفل في نعيم الدنيا تاليًا (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق)! فسبحان الله.

ولسد هذا الطريق عن النفس كي لا تصاب بـ»الأنانية» وحب الذات وتقديمها على الآخرين، التي تسفل بصاحبها إلى درك أولئك المستكبرين، قال صلى الله عليه وآله « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه » وفي التنزيل (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فليس من أخلاق المسلم وليس من سمات الإنسانية؛ أن يوغل الرجل في نعيم وملذات الدنيا، ثم يحرض الآخرين على الزهد فيها وتركها، أو أن يتشبث بالحياة بكلتا يديه ثم يرغب غيره في الموت، فإن نفس المؤمن غالية لا تباع إلا لله؛ حماية لدينه، في إطار جيش وأمنٍ منظمَينِ، وليس رهن عصاباتِ أو جماعاتٍ تحريضة حزبية ولا فصائلية، يذهب فيها الضعفاء الذين لا يعرفهم زعماء تلك الجماعات ومترفوها إلا حين يجمعونهم كحطب يوقدون به محرقتهم، وينتقلون من أسلوب إلى آخر، ومن طريقة إلى أخرى، وغاية ما في الأمر أنهم يعيشون ويتنعمون، ولعل ما قاله ذلك الجاهلي ألصق بهم:

هل في القضية أنْ إذا استغنيتُمُ

وأمنتمُ، فأنا البعيد الأجنب؟

وإذا الكتائب بالشدائد مرة

جَحَرَتْكمُ، فأنا الحبيب الأقرب؟

ولجندبٍ سهلُ البلاد وعذْبُها

وليَ الملاح وحَزْنُهُنَّ المُجْدِبُ!

وإذا تكون كريهة أُدعى لها

وإذا يُحاس الحَيْس يُدعى جندب!

هذا، والله من وراء القصد.

عادل الكلباني

(نقلاً عن الرياض)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *