الرِّضا

ذاتَ ليلة كنت في زيارة لأحد الأصدقاء ، وأثناءَ ماكنّا نتجاذبُ أطرافَ الحديثِ دخل علينا ولدُهُ ذو الأحد عشر عامًا قائلاً له : بابا ٣+٣ = ١٠، صح؟

قال والده : هلا هلا …، نعم،، صح، صح، صح، أنت (شاطر ، شاطر) بعد ذلك انطلق الولدُ إلى والده مسرورًا، فجلس بجوار والده، وأخذ الوالدُ يمسحُ على رأس الولد، ويثني عليه،  ويقبّله، ويتبادلان الضحكات.

انصرف الوالدُ بالكليّة عنّي، يحوطُ  ابنه بأحاسيس، ومشاعر غايةً في الإيجابية، تتراوح بين المدح له، والثناء عليه، وبين الدعاء له بالتوفيق، والشفاء.

اتّضح لي من خلال هذا المشهد الأبوي الحاني، المضمّخ حبًّا، وثقةً، أنه مشهدٌ كثيرًا مايتكرّر بينهما. الأمر الذي خلق هذه الكيمياء من التوافق، والإمتزاج، والتفاعل بكلّ تلقائية، وعفويّة؛ بعيدًا عن المكان، والزمان، فحتمًا ليس هنالك قيود تمنع هذا الطفل المريض، إذا ما أراد التعبير عن طلباته، ورغباته، وشكواه، ومعاناته، ليس عليه إلا الإنطلاق لهذا القلب الكبير، والبوحُ بما يريد.

دقائق معدودة، ومشهد أبويٍّ حانٍ، ولحظات من الرضا بأقدار الله، والتعامل معها بسلوك عالٍ، هذا مثالٌ حيٌّ للمؤمن الذي تعايش مع الإبتلاء بكلّ صبرٍ، ورضا، لايتأفف، ولايشكو، سكن الرضا _هو أعلى درجة الصبر_ داخل فؤاده، وتعايش مع ابنه المريض، ولسان حالِه يقول كما قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون) سورة البقرة، الآية ٢١٦.

في حياتنا بعمومها، نشاهدُ، ونلاحظُ أحداثًا وحالات، ونماذج متعددّة _سواء في محيطنا القريب، أو البعيد_ لأناس يُعدّون نماذج حيّة تُحتذى، يمرّون بظروف صعبة، ومتعددة بكافة أنواعها، وأشكالها، الصحيّة منها، أو الماديّة، أو الإجتماعية … إلى آخره.

 ويتعاملون مع تلك المشاكل، والإبتلاءات بالصبر، والرّضا مع بذل الأسباب حيال التعامل معها بكل هدوء، واطمئنان، وثقة، لسان حالهم دائمًا يجيء وفق ماقاله الله تعالى: ( إن مع العسر يسرا) [سورة الشرح  الآية ٦].

من كانت حالتهم كذلك فهم يرون في الأفق البعيد المنح الجميلة، مهما تعددت المِحن، يرون الضوء في نهاية النفق المظلم الذي يمرُّون خلاله، حرّك التفاؤل جميعَ جوارحهم، فلازمهم الهدوء، في حركاتهم، وسكناتهم، وفي جميع أحوالهم.

وقرَ في نفس هذا الصديق، وأمثاله ممّن يمرّون بظروف صحية، أو ماديّة، أو اجتماعية صعبة، مهما كانت تلك الظروف، أنه: مهما كان، يعد هو أفضل من غيره، فثمَّ مشاكلَ، وأمراض أشد، وأقوى. وأنّ هذا ابتلاء من الله، يوجب عليه الصبر، والرضا بما قدّر الله، وكذلك آمنَ تمام الإيمان أنّ هذه الإبتلاءات، والمحن، تحملُ منحًا من الله لمن صبر، واحتسب.

قال تعالى: (ولنبلوّنكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) [ البقرة ، ١٥٥].

وقال تعالى: (ولنبلوّنكم بالشرّ والخيرِ فتنةً وإلينا ترجعون)[ الأنبياء،٣٥ ].

وقال تعالى: (إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب) [ الزمر ، ١٠].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مايصيب المسلم من نصبٍ، ولا وصبٍ، ولا همٍّ، ولاحزنٍ، ولا أذى، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه) [ رواه البخاري].

إذاً هؤلاء لم يعلموا فقط أن هذه الدنيا دار ابتلاء، بل تيقنوا تمام اليقين بذلك، وصبروا ورضوا بأقدار الله. وهذه نعمة بحدّ ذاتها امتنّ الله عليهم بها.

على العكس من ذلك تمامًا، نشاهد في حياتنا اليوميّة _خلال الزيارات، أو الإجتماعات- أُناسًا متجهّمين، متأفّفين، أخذهم التوتّر، والقلق إلى مناحٍ عديدة، بمجرّد أن تسأل أحدهم: كيف الحال؟ إلا ويسردُ عليك قصةً، أو قصصًا من المعاناة، والألم. والحديث في هذا يطول.

فمثلما يتفاوتون الناس بصبرهم على الإبتلاءات، والمصائب، فهؤلاء كذلك يتفاوتون في تذمّرهم، وقلقهم، وتوتّرهم، وشكاواهم، بل أن بعضهم ذهب بهم الحال إلى الشكوى من عدم الوصول إلى الكمال في أمرٍ، أو تجارةٍ مّا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *