مناقصات السنة التحضيرية
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
تداولت الأخبار منذ يومين إعلانا من إحدى الجامعات يتضمن طرحها منافسة لإدارة وتدريس مهارات التعليم والصحة واللياقة لبرنامج السنة التحضيرية بالجامعة، وطلبت ممن لديه القدرة والإمكانات أن يتقدم بعطاءاته إليها، وهو إعلان غريب، أن تقوم جامعة وظيفتها التي أوجدت لها هي التعليم، ولا سيما للسنة التحضيرية التي هي الأساس الذي يبنى عليه ما سيأتي لاحقا من مراحل التعليم كله، تقوم هذه الجامعة الموقرة وتسند مهمتها إلى غيرها بغض النظر عن شكل وكيفية هذا الغير، وعن مؤهلاته التي تخوله التعليم والتدريس، وكأن التعليم والطالب قطعة غيار تبدل أو بضاعة تستورد، وليست إعدادا وتأهيلا وعملا شاقا مضنيا، لا يقوم به ويحسنه إلا ذو رسالة علمية ومسؤولية عالية مدركة للدور الكبير لمستقبل هؤلاء الطلاب، ومستقبل الوطن كله الذي ينتظر كفاءاته العلمية المدربة العالمة.
وليس هذا الإعلان جديدا على ما فيه من غرابة ولكن الجديد فيه هو طرحه في مناقصة عامة لمن يتقدم بعطاء أفضل وأقل تكلفة، أي إن التعليم أصبح في رأي القائمين على الجامعات عملا تجاريا بحتا تنطبق عليه شروط المنافسات والمناقصات للذين يبحثون عن الربح في الدرجة الأولى والأخيرة.
كانت جامعات المملكة في الماضي قد تأهلت لتعليم متميز لا يقل عن مثيله في جامعات العالم، واكتسبت سمعة أكاديمية عالية حتى إن خريجيها لا يجدون مشكلة في القبول لدى أرقى الجامعات وأعرقها وأكثرها تشددا في معايير القبول التي ينص عليها نظامها الداخلي، وهذا كله بفضل البدايات العلمية الممتازة والرائدة التي بدأت بها قبل أن تبدأ باستحداث السنة التحضيرية وتعهد بها إلى مؤسسات أهلية تجارية يهمها في الدرجة الأولى الكسب الذي تحققه، لتقوم بتدريس الطلاب في أهم وأخطر مرحلة في حياتهم التعليمية، حيث الانتقال بهم من التعليم العام إلى التعليم العالي الذي تتكون فيه مهارات الطالب والطالبة وشخصياتهم ويتحدد فيه مستقبلهم وتخصصهم وما سوف يمارسونه طيلة حياتهم.
تعد السنة التحضيرية من أهم المراحل التي يتم فيها فرز قدرات الطلاب وميولهم العلمية وقدراتهم، وعلى ضوء ذلك يكون توجيههم للتخصص الذي يناسبهم، والمستقبل الذي يرجى لهم، وهو ما يحتم أن يكون أساتذة السنة التحضيرية ليسوا فقط من أساتذة الجامعة المتخصصين والمدربين الأكاديميين الذين مارسوا التعليم الجامعي ونضجت خبراتهم وتجاربهم في حقوله المختلفة، ومن الراسمين لسياستها ومناهجها، والعالمين بمتطلباتها، بل من الذين لديهم قدرة على تحليل شخصية الطالب وتقييمه وتحديد ما يمكن أن يبدع فيه من العلوم، وما يصلح أن يحقق فيه النجاح الدراسي والعملي بعد التحاقه في البرنامج العام للجامعة.
ولا أدري على أي أساس علمي أو منطقي أو تربوي تتخلى الجامعة عن أهم مرحلة تعليمية لطلابها وتعهد بهذه المهمة للقطاع الخاص أيا كان نوعه وأيا كان تخصصه. إذا كانت الجامعة لا تستطيع أن تتولى تعليم أهم مرحلة من مراحل التهيئة والتكوين لطلابها فما هي وظيفتها؟ وما العمل الذي ستقدمه لهم بعد أن يتخرج الطلاب من هذه الشركة التجارية التي تقدمت بعطائها لتقوم بالنيابة عنها؟
مضى على شركات التعليم هذه أكثر من سبع سنوات، وجربت جميع الجامعات هذه المناقصات والمنافسات، وكان حصادها مرا وطعمها علقما، والأولى بالجامعات أن تدرك الخطأ الكبير الذي ارتكبته بحق طلابها وبحق الوطن الذي أسند إليها تعليم أبنائه وبناته، وأن تراجع سياستها التعليمية وأمانتها العلمية وتعرف أنها وقعت في مأزق كبير وذنب لا يغفر حين جعلت الأولوية لمصالح شركات التعليم ومكاتب تدريب العمالة قبل مصالح الطلاب، وتخلت عن دورها التعليمي الذي أنيط بها.
تجربة السنوات الماضية التي أسند التعليم فيها إلى شركات القطاع الخاص كانت كارثية بكل ما تعنيه الكلمة من كل الوجوه، وأولها المستوى الفارغ من التحصيل الذي يتخرج به أكثر طلاب هذه الشركات، وكان من الأولى أن تقيم الجامعات في المملكة التجربة غير المسبوقة التي تخلت بموجبها الجامعات عن وظيفتها الأساسية وهي التعليم إلى شركات تجارية يهمها بالدرجة الأولى قيمة العقد الذي تحصل عليه، وليس من مهمتها ولا من وظيفتها التعليم بأي حال كان. ولكن مع الأسف لم تقم الجامعات بتقييم تجربتها بعد مضي هذا الوقت الكافي لمعرفة نتائجها، ولم تلتفت إلى المستوى الضعيف الذي وصل إليه طلابها، ولا إلى النوعية المتدنية من الكفاءة التدريسية لمدرسي تلك الشركات، التي تقدمت بعروضها للتدريس، فإذا كسبت المنافسة بحثت عن أنصاف المتعلمين وبعض موظفي الشركات الخاصة ومن يحسن اللغة الأجنبية، وجاءت ببعضهم من سكرتارية بعض الشركات الأجنبية..كل ذلك تمارسه جامعاتنا بضمير تجاري مرتاح جدا، لأنها تخلت عن ضميرها العلمي وعن وظيفتها التعليمية.
التعليم ليس تجارة تحسب الربح والخسارة المادية، وليس مهمة سهلة تخضع لشروط المقاولات وتصنيفها، وليس مشروعا يوكل أمره إلى من يتقدم بالعطاء الأقل أو الأكثر..التعليم صناعة مستقبل أجيال ومستقبل أمة. وإذا كانت الجامعات عاجزة عن تعليم الطلاب الذي هو وظيفتها، فما هي الوظيفة التي ستقوم بها الجامعات بعد ذلك؟ سؤال لا أظن إجابته ستكون صعبة، ولا مستحيلة، ولكنها في كل الأحوال إجابة غير مقبولة.
مرزوق بن تنباك
نقلا عن “مكة”