الردة الجديدة عالمياً : اليمن نموذجاً
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
لم يكن مستغرباً أن تحبط موسكو أمس، قراراً أممياً يدين الحوثي على جرائمه ويمنع انزلاق اليمن إلى حرب أهلية، فهي تتعاطف -تلقائياً- مع كل التوجهات القريبة منها، وتريد تأكيد أنها الند المضاد لواشنطن وليس مجرد صوت في مجلس الأمن.
المشكلة ليست في الجماعات الإرهابية، فهي تحمل جينات فنائها في وجودها وإن تركت جروحاً غائرة لا يمحوها الزمن، كما هو حال الجدري حين تبقى آثاره علامة على الحرب الشرسة معه، ولا يمكنها العيش لأنها تعلي ثقافة الموت على ما سواها، فلا وجود للإعمار والبناء في قاموسها، ثم إن العالم المتحضر يحاربها ويتحد ضدها. المشكلة هي وجود ما يشبه ردة عالمية نحو الماضي ومحاولة إحيائه، بمعنى السير رجوعاً وتوظيف كل الإمكانات والقدرات لهذه الردة ومحاولة العيش في جلبابها.
تريد إيران أن تؤسس دولة شيعية تتحدث الفارسية لتكون إحياء لمجد إمبراطوريتها المنقرضة في كل تفاصيلها، والمدخل إلى ذلك هو استخدام الإسلام، الذي أسقطها أصلاً.
يسعى أردوغان إلى إعادة الخلافة العثمانية بروحها وملابسها وسطوتها الكاملة على الشرق، جاعلاً المرحلة الذهبية اقتصادياً التي صنعها في تركيا عربة تحمل هذا الحلم وصولاً إلى تحقيقه.
يحلم بوتين بوهج الإمبراطورية الروسية ومجد الاتحاد السوفياتي، ويجد أن دولته الحالية بخريطتها ومستوى حضورها ليست سوى جزء صغير من الواقع المفترض لكي تعود موسكو قطباً ندياً قائماً بذاته لا يستجدي تعاطف الصين أو يستعين بدول أخرى تمنحه وهم القوة من دون جوهرها.
يأمل الحوثي في أن يعيد الإمامة في اليمن بما يعنيه ذلك من قدسية وديمومة لا تعترفان بالتنوع اليمني، ويعمل من أجل القضاء التام على الوجود الفاعل لمقومات سياسية واجتماعية والعودة باليمن إلى حال الطاعة والخضوع إلى إمام يحمل الخنجر اليمني ويضع عمامة إيرانية.
دول كثيرة غادرت المشهد العالمي وتحن إلى تاريخ هيمنتها الواسع، لكنها لم تقم بخطوات ارتداد إلى ذلك الماضي باعتباره حقبة منتهية ومرحلة منقضية، كما هو حال بريطانيا وإسبانيا، اللتين تمضيان إلى الأمام وفق المعطيات الفعلية، فلا يبقى من التاريخ الاستعماري سوى المذكرات والكتب والخرائط القديمة، ما يجعل محاولات الردة خطراً عالمياً ينذر بانتكاسات شتى، ليس أقلها تزايد البيئات الحاضنة للإرهاب المتعدد الجذور، وزيادة مخاطر الحرب العالمية مع توظيف كل منجز حضاري من أجل نقل العينين من مقدم الرأس إلى الجهة الخلفية منه، لتكون كل خطوة تزيد أفق الماضي اتساعاً وشمولاً.
هذه الموجة تتزايد وتتلاقى في نقاط عدة، ما يجعلها -مستقبلاً- حلفاً واحداً تجمعه الأحلام المشتركة على الأقل مرحلياً، وحينها سيكون الصدام أقرب إلى الحتمية ما لم ينتهِ بعض هذه الأحلام مع أصحابها، لأن منشأها فردي فقط.
جاسر الجاسر
نقلا عن “الحياة”