حرب شرسة على القيم

مدار رحلة البشرية هو تأسيس القيم وترسيخها، لتكون ضابطاً أساسياً لكل مجتمع مهما كانت أولويته أو محدودية جغرافيتــــه. لم ينشأ أي مجتمع بشري من دون منظومة قيم خاصــــة به ترســـم علاقات الأطراف وتحدد معنى الظلم والعدالة والحقوق والواجبات من أجل أن تكون هذه المنظومة حصانة له ومنعاً للفوضــى والتصورات الفردية. هذا الجهد تنامى عبر الرحلة الطـــويلة حتى أصبحت معظم القيم مشتركة بعيداً عن التباينات المختلفة، بمعنى أن التواصل الإنساني الكثيف أزاح كثيــراً من الاجتهادات والارتباكات وصولاً إلى قائمة متفق عليها إجمالاً أصبحت هي الأساس في العلاقات الدولية، وجعلت الثقافة بمنابعها المختلفة معطياً إنسانياً ثابتاً، وحددت معاني الحرية والحقوق والواجبات عبر لغة يفهمها الجميع ويقر بها.

ما يشهده العالم اليوم ينسف كل هذا، ويتلاعب بالقيم الراسخة ليحيلها إلى حال مطاطية قابلة للتشكل في صور تناقض المعنى الثابت وتخلخل دلالاته، ليصبح التفسير المزاجي الاعتباطي هو الأقوى تأثيراً والأكثر شيوعاً.

يتوافر الإسلام على أرقى منظومة أخلاقية متماسكة وجلية، إلا أن الموجات المتوالية من التشظيات التي أحدثتها جماعات شتى تجتزئ الأصل وتراوغ في التأويل، خصوصاً في السنوات الأخيرة إثر انتشار خطاب هذه الجماعات ومحاولة كل منها احتكار فهم الإسلام وإعادة تأويله، ما أربك كثيراً من الشباب وأدخلهم دوامة الصراع العنيف من أجل الدفاع عن إسلاماتهم المتعددة.
في مجرى الأحداث لم يرتبك مفهوم الحقوق كما هو اليوم. روسيا تطالب الغرب باحترام حقوق الشعوب ثم تقضم جزءاً من أوكرانيا باعتباره عملاً يدعم الحقوق، وتناصر نظام الأسد في قمع شعبه لأنه يحارب الإرهاب حتى إن أصبح الشعب كله إرهابياً، فالحق مع النظام دوماً. إيران لا يتوقف صراخها عن احترام الخيار الديموقراطي مع أن ديموقراطيتها لا تختلف جوهراً عن انتخابات الأسد، وتدعو إلى احترام الآخرين في الوقت الذي تتدخل فيه في كثير من الدول وتضرب كل توجه لا يدين لها بالولاء والطاعة. تركيا ترتد عن ديموقراطيتها السابقة، فتعتـــبر المعارضة التقليدية خيانة وطنية، وحرية الإعلام انتهاكاً لسيادتها، والصوت المغاير طابوراً خامساً، ثم تقلب كل المفاهيم حين تسمح بإنشاء مجلس ثوري معارض للحكومة المصرية باعتبارها حريصة على الديموقراطية وحماية الحقوق!

الحوثي له مفهوم خاص عن الحقوق والحوار، فيقتل كل من يخالفه لأنه الوحيد صاحب الحق ومالك المعرفة التي يعجز المخالفون عن استيعابها، فلا بد من عمليات التصفية حتى لا يبقى سوى الصوت الحوثي.

أميركا تصدر البيانات الانتقادية لكل دولة تحتجز معارضاً مهما كان مجرماً ثم تعترف أن تعذيبها المعتقلين حماها من عمليات تخريب وأنقذها من نشاطات مدمرة.

لا شــيء ثابت فما هو حق اليوم يصبح غداً جريمة، وما كان محظــــوراً يصبــــح حـــقاً طبيعيــاً مع مفارقة أن الجميع يستندون إلى النصوص نفسها ويحتجون بها ويزعمون حمايتها.

الحرب ليست مشكلــة، فهي حوادث تقع، إلا أن العيب الإنساني الخطـــر هو الاستهزاء بالقيم الأخلاقية والجرأة في التلاعـــب بها، وهــو ما سيعيد البشرية إلى حال من ضياع القيم، لأن عدم وجودها أقل ضرراً من انهيارها وانكسار دلالاتها.

جاسر الجاسر

نقلا عن “الحياة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *