مهرجان الإبل.. هل أضاع الهوية أم انتصر لها..؟!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
في كل عام، يشهد مهرجان مزايين الإبل اهتماماً واسعاً يتجاوز حدود المملكة، حيث يتحول إلى حدث كبير يستقطب عشاق التراث والهجن من مختلف الشرائح الاجتماعية.
يتنافس فيه ملاك الإبل لإبراز جمالياتها وفق معايير دقيقة، في مشهد يخلد جزءاً مهماً من التراث السعودي وثقافته.
ومع ذلك، فإن هذا الحدث الكبير يثير الكثير من التساؤلات حول جدوى الإنفاق الضخم الذي يرافقه، والذي يصل إلى مليارات الريالات، ومدى ارتباطه بالقيم الحقيقية للتراث ورمزية الأإبل.
الإبل ليست مجرد حيوان ارتبط بالبيئة الصحراوية، بل هي هوية وطنية ورمز تراثي يجب أن نحافظ عليها كجزء أصيل من ماضينا، لا أن نحيد بها عن الأصالة ونحولها إلى أداة للتفاخر أو المظاهر.
كانت ولا تزال رمزًا للصمود والتأقلم في البيئة الصحراوية القاسية، وحاضرة في الذاكرة التاريخية، شريكاً في رحلات العقيلات، لها مكانتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، كونه مفردة تراثية عميقة ضمن النسيج الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للحياة في الجزيرة العربية.
لكن مع التطور الحاصل في تقنيات الإعلام وظهور مظاهر الترف والبذخ، يبدو أن المهرجان بدأ يأخذ منحى مختلفاً عن جوهره الأصلي. أصبحت المنافسة اليوم لا تقتصر على أهل الخبرة والمعرفة بالإبل، بل دخلها مشاهير منصات التواصل الاجتماعي ورجال الأعمال الذين لا يملكون ارتباطاً حقيقياً بهذا التراث، هذه الظاهرة حولت المهرجان إلى استعراض اجتماعي يطغى عليه التفاخر بالمظاهر على حساب الرسالة الحقيقية التي يفترض أن يحملها، وهي تأصيل تراث الإبل وتعزيزه في الثقافة السعودية والعربية والإسلامية، وتوفير وجهة ثقافية وسياحية ورياضية وترفيهية واقتصادية عن الإبل وتراثها، مما يؤثر في هويته وعلامته الأصيلة. أصبح المهرجان يُستخدم بشكل متزايد كمنصة للترويج التجاري والإعلاني، مع التركيز على البذخ والمظاهر الفاخرة.هذه الظاهرة تعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية التي نشهدها في العالم المعاصر، حيث تتداخل الثقافة الشعبية مع التوجهات الاقتصادية والإعلامية، مما يؤدي إلى تغييرات في كيفية تنظيم وتصور المهرجانات.
المشاهير ورجال الأعمال، الذين يشاركون غالبًا دون دراية أو اهتمام حقيقي، يسهمون في رفع أسعار الإبل بشكل غير مسبوق، مما يؤدي إلى تشويه صورة المهرجان لدى البعض وتقليص فرص أصحاب الخبرة الحقيقية في المشاركة.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار الجهود الكبيرة التي تبذل سنوياً لتطوير المهرجان وتحسين فعالياته، حيث تسعى اللجنة المنظمة إلى تعزيز معايير النزاهة في التحكيم، وتنظيم برامج توعوية تسلط الضوء على أهمية الحفاظ على الإبل كجزء من التراث الوطني. بالإضافة إلى ذلك، يتم العمل على استقطاب الزوار من داخل المملكة وخارجها، مما يساهم في تعزيز السياحة المحلية وتنشيط الاقتصاد في المناطق التي يُقام فيها المهرجان.
لكن مع كل هذه الجهود، يبقى السؤال مطروحاً: هل تحقق هذه التطورات التوازن المطلوب بين الاحتفاء بالتراث وتحقيق الجدوى الاقتصادية؟ وهل ما يقدم مواكب لأدبيات صناعة الهوية واستثمار العلامة كمنتج تراثي حضاري يجذب العالم الآخر لموروث طالما تغنت به الأجيال..
وفقاً لتقديرات غير رسمية، يُنفق في المهرجان مبالغ تصل إلى مليارات الريالات سنوياً على شراء الإبل النادرة، ورعايتها، وتجهيزها للمنافسات، بالإضافة إلى الجوائز الضخمة التي تُمنح للفائزين.
في حين يرى البعض أن هذا الإنفاق يعزز الاقتصاد المحلي ويوفر فرص عمل، يرى آخرون أنه يعكس نمطاً استهلاكياً مبالغاً فيه يتنافى مع التوجهات التنموية التي تركز على الاستدامة والاعتدال.
السؤال الأكبر هنا يتعلق بالأولويات، ونحن في ظل رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتعزيز الابتكار وتطوير الموارد البشرية، يبدو من الضروري إعادة النظر في كيفية توجيه هذه الموارد المالية.
يمكن على سبيل المثال استثمار جزء من هذه المبالغ في دعم البحث العلمي حول الإبل، وتطوير صناعات مرتبطة بها، مما يحقق قيمة اقتصادية حقيقية ومستدامة تتجاوز حدود المهرجان.
إضافة إلى ذلك، يمكن تنظيم فعاليات جانبية تثري المهرجان وتعكس أهدافاً تنموية وثقافية أوسع، بالتعاون مع هيئات وزارة الثقافة. يمكن أن تشمل هذه الفعاليات برامج تثقيفية عن أنواع الأبل ومسمياتها ومعانيها وألوانها وصفاتها، وورش عمل للحرف اليدوية التقليدية، ومعارض تسلط الضوء على دور الإبل في تاريخ المملكة.
مثل هذه المبادرات يمكن أن تعيد التركيز إلى القيم الأصيلة التي يمثلها المهرجان وتحافظ على هويته وعلامته الضاربة في أعماق التاريخ.
في النهاية، لا يمكن إنكار أهمية مهرجان مزايين الإبل بوصفه احتفاءً بالهوية الثقافية للمملكة، لكنه بحاجة إلى إعادة تعريف أهدافه وغاياته والحفاظ عليها من عوامل دخيله تؤثر على هوية المهرجان.
يجب أن يتجاوز كونه ساحة للتنافس المادي والتفاخر ليصبح منصة تعزز الوعي بالتراث وتحقق فوائد ملموسة للمجتمع بأسره.
المهرجان ليس بحاجة إلى تقليص أو إلغاء، بل إلى إدارة متوازنة تُعيده إلى جوهره الأصيل، بعيداً عن مظاهر الاستعراض والشهرة، ليظل شاهداً على أصالة الماضي ورؤية المستقبل، ومصدر اعتزاز بتراثنا الذي نريد الحفاظ عليه لا أن نحيد به عن أصالته.
باحثة وأكاديمية في صناعة العلامات الوطنية
مشرف عموم بوكالة تنمية قدرات الطلاب في وزارة التعليم