شاهر النهاري: روافد وحوار في الثقافة
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
كنت أناقش عددًا من المثقفين السعوديين، والذين أسعد بأرائهم، مهما كانت في بعض الأوقات تنحرف عن جادة المنطق، وترتدي ثوب النرجسية.
وتكلم أحدهم عن برنامج (روافد)، الذي تقدمه قناة العربية، والذي يتم من خلاله تقديم شخصية عربية مبدعة في مجال معين، وكان رأيه بأن هذا البرنامج يهمش المبدعين السعوديين، على حساب المبدعين العرب، وأن القناة برأس مالها السعودي لا تأبه لذلك!.
وقد تشعب الحوار، حتى أصبح مجالًا لبعض العبارات العنصرية، والدعابات، التي تعطي معاني الشطط وتبعد كثيرًا عن المحور.
والحقيقة أن مسألة الإبداع ليست مجرد شخص يمتلك موهبة أو بعض من المواهب، أو يمتلك المصادر المالية أو الاجتماعية الجاهوية، التي تمكنه من جلب المصادر، وتلميع الواجهة، وتسخير من يفكر عنه، أو يكتب له، أو يرسم أو حتى يلحن…
الإبداع خصوصية إنسانية ثقافية خلاقة، ويكون أكثر ندرة في تلك المجتمعات المغلقة البعيدة عن الثقافة الحقيقية، حتى ولو فرضنا أن البترول ساعد على لحاقها بالركب لاهثة.
الإبداع الحق هو الإتيان بجديد أو إعادة تقديم القديم بصورة جديدة أو غريبة مبتكرة، وليس محاكاة الأمثلة الموجود، ولا أن تأتي بما قد أتت به الأمم من قبلك، وتدعي زورًا بأنك أول من أبدع فيه، لأن الابداع مزيج من الخلق، الذي يبهر ويعجز الناظرين، أو السامعين، مستمرًا على نفس النهج لفترات طويلة تؤصل وجود نبع الإبداع المتدفق، وبدون أي مساعدات أو رتوش خارجية.
كثيرون بيننا يحاولون الوصول إلى درجة الإبداع، وقد يصل بعضهم لوهلة، وقد يُخدع الأغلبية أنفسهم بحصوله، ولكن القليل منهم من يثبتون ذلك دون حصول ما يسبب الكروت الحمراء، والطرد.
الثقافة، لا يمكن أن تكون نبتة شيطانية تنمو بمجرد وجود ساقية مؤقتة من الماء النظير حولها، ولكنها شجرة عتيقة عظيمة الجذع والأغصان، تصل جذورها إلى أعمق طبقات الحضارات، حتى في أيام الجفاف، ولا تنفصل أغصانها عن سماء الإبداع الحديث والقادم، والمتفرع في أفاق الثقافة.
كثيرون يظنون أن الثقافة مجرد معرفة، وقدرة على الانتاج، بينما تكون الثقافة الحقيقية عالم برزخي بكامله يحتاج إلى تضحيات، وأجيال متعاقبة من العطاء، وتعمق يُخرج ما تحت طبقات البترول من المعارف وبقايا عظام الديناصورات.
ليس كل مثقف مبدع، والإبداع زرع يكتمل ويزهر بالثقافة، لتبلغ أغصانه أطراف العالم.
مثقف القرية -إلا فيما ندر- يصعب أن يكون برؤيته ومعارفه أفضل من مثقف الضاحية، ومن في الضاحية يندر أن يغلب من بالمدينة، ومن بالمدينة من مثقفين يحتاجون لكثير من الصبر، والتعلم، والمبادرة، والاحتكاك والتواصل مع ثقافات الأمم، والتأصيل ليكونوا منظورين على مستوى العالم.
ومثقف (الوتسأب)، يحتاج لمعجزة ليصل لمسمى مبدع!.
والثقافة السعودية تظل خديجة وليدة تحتاج لكثير من التغذية والعناية، والصبر، والتربية، والتعليم، ليكون لدينا في يوم من الأيام أنواع متعددة من المبدعين على جميع المستويات، وفي سائر مجالات الإبداع.
بلدنا تحتاج لمدارس ومعاهد وجامعات وجمعيات تؤمن بالإبداع وتعمل على رعايته وإظهاره، لأن المبدع العصامي قد يهتز، فلا يرسخ على أربع عجلات.
جميل أن نقوم بتشجيع وأن نحتفي ببوادر أي محاولة إبداعية، ولكن تسميتها بالإبداع يقتلها بالغرور، والعيش في واقع افتراضي لا يقره غيرنا.
لنبحث عمن يبشروا ببوادر الإبداع، وأن لا نتسرع الاحتفال بهم وتكريمهم، ولنسعى لتمكينهم من أدواتهم، مما يجعل منهم مبدعين حقيقيين.
لا أريد أن يصبح برنامج (روافد)، مثل برامج تبثها بعض القنوات الأخرى، التي ربما لا يشاهدها إلا الضيف وأهله وأصحابه. ولنتأمل أن يأتي يوم، نرعى فيه مبدعينا، فنجد منهم العشرات، ودون أن نشك في ما أعطونا، لتشابهه بإبداعات قديمة، وأن لا نجد من يؤكد بأنه هو من ساعدهم بالأجر في أغلب ذلك الإبداع.
(شاهر النهاري)